الرواية العراقية أنموذجًا..

العنف ثيمة في أدب الحرب..

عندما سأل الدكتور محسن الرملي الشاعر والناقد الأسباني مانويل رينا عن رواياته باعتباره يكتب الرواية التاريخية، أجاب بإمكانية اعتبار كل رواياته تاريخية، لأنها تحكي عن حقب تاريخية معينة، تستدعي أنساقها الاجتماعية والثقافية وكل ما يتصل بمجتمعاتها. أما عن حراكه الثقافي السابق ضد الحرب على العراق، فقد جاء ثابتًا على موقفه، وهو أن الحرب على العراق ظالمة. وحراك المثقفين آنذاك انطلق من اعتقادهم بأن الأدب بإمكانه إحداث تغييرٍ في العالم، بينما التجربة أثبتت أن التغيير محصور على فئة قليلة، بل أن المثقفين أنفسهم قد يتغيرون مع الزمن ويركنون إلى الكسل. وبصرف النظر عن كل ذلك؛ تظل الحرب كارثة لابد أن تتوقف. من هنا نلج لموضوعنا: الرواية العراقية باعتبارها سجلًا سرديًا يكشف عن معاناة الإنسان إزاء العنف المُمارس على مدى عقود، اتسمت بالحروب والصراعات الدامية الداخلية والخارجية، وعادت بالويلات على الشعب والوطن. يكتب د. أحمد حميد؛ أستاذ اللغة العربية والأدب الحديث بجامعة بغداد في مقدمة كتابه ( تمثلات العنف في الرواية العراقية من عام 1960 إلى 2003): « انغرسَ العنفُ عَميقاً في سلوكيات المجتمعات الشَّرقية سابقاً وحاضراً، وكان للمجتمع العراقي النصيب الكبير مِن تداعيات تلك السلوكيات التي غيّرت موازين القوى الاجتماعية والسياسية في العراق، وهزت المنظومة القيمية نتيجة تعدد أنواع العنف (المادي والمعنوي) الممارس بحق العراقيّين من السلطات الحاكمة قبل انعطافة نيسان 2003 «. ويقدم دراسته حول 33 رواية عراقية وفقًا لمنهج البنيوية التكوينية؛ الذي يعنى بدارسة النص ضمن السياقات الخارجية الاجتماعية والسياسية المتصلة به، ليخرج بثيمة موحدة وهي العنف على مدى أربعة عقود، ويعرضها في فصول ثلاثة: (1) العنف السياسي بعين الراوي العراقي. (2) التصوير الروائي للعنف الاجتماعي. (3) عنف الحرب. يقول أونوريه دي بلزاك، مؤسس الواقعية في الأدب الفرنسي: « إن المجتمع الفرنسي سيكون هو المؤرخ، أما أنا فلستُ إلا سكرتيرًا للواقع «. ولعل هذا القول يقاربه كثير من أدباء المدرسة الواقعية، والرواية العراقية تقدم نموذجًا فريدًا وثريًا يعكس مظاهر العنف الذي عاشه المجتمع العراقي، وتحمل تكاليفه الباهضة سواء المادية أو المعنوية، الأمر الذي لازم هذه الأرض وشعبها كأنه القدر الذي لا يُرد، ولكنه ظل مرفوضًا وموضع للاستنكار والمحاكمة حتى اللحظة، وهذا من الفوارق التي ميزت المجتمع العراقي عن غيره، وأشارت له كثير من الكتابات، ولعل من أشهرها ما أنتجه عالم الاجتماع العراقي الدكتور/ علي الوردي في كتاب « شخصية الفرد العراقي «، الذي تعرض فيه إلى سمة بارزة في الطبيعة الإنسانية عامة والشخصية العراقية على وجه الخصوص وهي ازدواجية المعايير، التي تنعكس بوضوحٍ جلي في السلوكيات والممارسات الاجتماعية أثناء تقديم الفرد لأكثر من نسخة متناقضة، مُعتبرًا ذلك نتيجة لظروف تاريخية وسياسية توالت عواصفها على هذا البلد الخصيب. وفي هذا السياق تُشارك الفنون الأدبية بدورها العضوي في توثيق ملامح الإنسان والزمان والمكان، فتقوم عين الروائي العراقي مقام الراصد للأحداث. ونحن في هذا المقال نطرح الموضوع استنادًا لمنهج السببية. نافذة على العنف السياسي بعين الراوي العراقي في الفصل الأول يسلط الباحث الضوء على العنف السياسي؛ ويعني استخدام القوة في العلاقة التبادلية بين السلطة والمجتمع، ما ينتج تفاعلًا حادًا يقوم على فعل العنف ورد الفعل المُضاد بين الطرفين. يأتي ذلك في مبحثين: 1.عنف السلطة ضد الشيوعين العراقيين. 2.الآخر الآيديلوجي وثنائية العنف والعنف المضاد. يستعرض فيهما بعض الأعمال الروائية بدءًا من رواية « خمسة أصوات « لغائب طعمة فرمان 1967، مُجسدةً عالمها من الحكم الملكي في الخمسينيات. ثم « الثلاثية الأولى « 1978 لجمعة اللامي، مستدعيةً ظروف العهد الجمهوري في الستينيات، والتي صوّرت الصراع بين الأحزاب الثلاثة: الشيوعي والبعثي والقومي، وفي إشارة مهمة في تاريخ المرأة العراقية وانفتاحها على المشاركة السياسية آنذاك. ثم « الغلامة « لعالية ممدوح، عن الحالة المأساوية التي تعرضت لها النساء من تنكيل وتعذيب. تلتها « مكان اسمه كميت « 1997 عن ظروف الحياة في السبعينيات. بعدها « ليالي كاكا « لشاكر الأنباري وثمانينيات الحرب العراقية الإيرانية. العنف الاجتماعي من زاوية التصوير الروائي نحا الباحث في الفصل الثاني نحو تمثلات العنف في الأوساط الاجتماعية، إنذارًا بعودة الإنسان إلى طوره البدائي عبر الانصياع للانفعالات الغريزية كالعدائية والانتقام وما ينتج عنها من سلوك لايعود على الفاعل إلا بتخريب العلاقات وتدمير الجسور الإنسانية والقضاء على التسامح والمحبة. وهذا ما أبرزته الروايات المُختارة على مبحثين: 1. المرأة في دائرة العنف الذكوري. 2. صور أخرى من العنف الاجتماعي. عنف الحرب مقبرة الحياة يختم الباحث فصله الأخير قائلًا: « نتناولُ الحربَ، لأنّها مقبرة الحياة، ومنها تنطلق انبعاثات العنف بمختلف تلاوينهِ المعروفة ضمن الإطار المادي والمعنوي على حدٍ سواء « هكذا يصور د. أحمد حميد الحرب الأكولة للحياة والمدمرة لملامحها الإنسانية والطبيعية، فالخراب الناجم عن لهيبها يسحق كل قيمة مادية ومعنوية فلا تعود الحياة بعدها كما قبلها، أما الإنسان فقد يذهب ويعود محمولًا وربما لايعود أبدًا. ويأتي عرضه على مبحثين: 1. عوالم الحرب العراقية الإيرانية. 2. حروب أخرى في الراوية العراقية. فجاءت رواية « الحافات « 1985 لمحمود جنداري، باقتباسٍ مؤثر على لسان البطل علوان: « لقد عاصرتُ أربع حروب أو خمساً، خرجتُ منها جِلداً على عظم، حاسر الرأس، نصف مخبول، نصف معتوه، نصف آدمي، ألا يكفي هذا كي يجعلني أشمّ رائحة الخشب في جسد آدمي؟ ألا يكفي هذا كي يجعلني أتوقُ إلى النَّهر بعد هذا العمر الطويل: خمسة حروب يستفيقُ مِن هولها الحجر، ورغبات إذا أرعدت فهي أعتى من غضب البحر». وفي هذا الفصل تتزاحم الشواهد الإنسانية لتُخلد رسالة الحرب في صفحات الأدب وسجلات التاريخ، تفيد بأن الحرب لا مُنتصر فيها، الجميع يخسر ولاتعود بشيء غير الموت والدمار والخراب على الجميع. مخرج من أدب المأساة عودةً إلى السببية؛ إن فهم الطبيعة البشرية لايتحقق منفصلًا عن ظروف بيئتها، بل يتأتى منسجمًا مع علاقتها بين الدافع والسلوك. وعليه؛ نُثمن جهد الباحث في هذه الدراسة الجديرة بالتقدير لحقبة مهمة مرت بها المنطقة العربية وتحديدًا جمهورية العراق، بموقعها الاستراتيجي ومركزها الاقتصادي العالمي وتاريخها الحضاري العريق، وخلفت آثارها على الإنسان والأرض. ويمكننا اعتبار هذا العمل فهرسًا مرجعيًا لأدب الحرب وروايات المأساة والعنف في العراق، فقد نجح في تفصيل وتحليل مستوى البناء النفسي والمعنوي والأخلاقي للشخصيات الواردة في الأعمال، وربطها بالظروف السياسية والاجتماعية المواكبة للأحداث. يقول الشاعر الياباني ميتسوهاشي توشيو مُلامسًا مشهد الطبيعة بعد انتهاء الحرب وانطفاء لهيبها: عند احتراق حشائش الحقول تظهر بقايا هياكل عظمية لجنود