الأنظمة العالمية فوق القطبية..

كتاب يقرأ نمطًا جديدًا للنظام الدولي.

صدر كتاب «الأنظمة العالمية فوق القطبية: قراءة في الأنماط والسمات الاقتصادية والأمنية والرقمية الناشئة في النظام الدولي»، للكاتب محمد بن ساري الزعبي، عن مركز البحوث والتواصل المعرفي عام 2025م، ليثير تساؤلًا جادًّا لدى القارئ العربي حول المراد بدقة من عبارة «ما فوق القطبي»، وما الفرق بدقّة بينه وبين النظام الدولي المتعدد الأقطاب. واستدعى ذلك أن تُلخص النظرية بشكل واضح، بعيدًا من التعميم والغموض والتنقّل والاستطراد الذي يصعّب نقد المادة المطروحة. وعادة ما تتضمن مثل هذه الدراسة ما يسمى «مراجعة أدبية» تضم ما يتعلق بالدراسات والبحوث والمقالات السابقة التي توصلت إلى مفهوم «فوق القطبية»، خصوصًا العربية منها، بعد تحكيم متخصص في الدراسات السياسية الحديثة المنشورة باللغة الإنجليزية، ولا سيما والكتاب لا يحتوي أي مرجع عربي تقريبًا. ويعد صدر الكتاب مقدمة نظرية وأساسية للكتاب، وما طُرح فيه يمكن أن يُفهم على أنه تمهيد طويل، ضمن أسلوب مقالي يتسم بالسرد المنطلق، وفيه كثير من الانعطافات والاستطرادات والتوقعات والاستشرافات والتحليلات السريعة والتفسيرات العمومية، وهذا الضرب من الأساليب منتشر في أدبيات الدراسات السياسية الغربية، كما أن مثل هذا النوع من المواضيع لافت للانتباه، خصوصًا مع تداخل الأبعاد المختلفة فيه، سياسيًا واقتصاديًا، إضافة إلى التطرق إلى الإمكانات التقنية التي وحّدت وعمّقت وعقّدت الترابط في عالم اليوم. ويتبادر إلى ذهن القارئ سؤال عن الفرق بين «النظام ما فوق القطبي» وبين نظم العولمة والشركات التي تهيمن عليها أمريكا (أبل وأمازون وتسلا مثلًا)؛ حيث إن قراءة سريعة قد تراه يصب أصلًا في مجرى القطب الأمريكي في عاقبة الأمر (خطط ترامب لفرض التعرفة والضرائب على الشركات الأجنبية وخفض أسعار النفط ورفع سعر الفائدة ...إلخ). وهل يمكن أن يقال إن نظرية «ما فوق القطبية» ليست سوى قَلبٍ للهرم؟ أي: بدلًا من أن تكون الدولة القطبية هي المنطلق الذي تعمل في فضائه الشركات، فإن الفرضية تأتي لتقول بالعكس. قد يبدو أن النظرية «فوق القطبية» تتجاهل القوة الكامنة وراء الشكل العالمي الحالي، أي: القوة النووية الضاربة للولايات المتحدة، والتطور الصناعي والعسكري المهول وامتلاك الأقمار الصناعية والاستحواذ عليها (ولو بضرب بعضها بصواريخ عابرة من الغلاف الجوي أو إغلاقها يدويًا من طريق مكوكات فضائية)، أي أنّ هذا التطور الذي يسفر عن الفروق الكبيرة بين الدول في أي صراع مباشر سينشب بينها وبين خصومها (إسرائيل في غزة ومع حزب الله مثلًا؛ حيث دُمّر قطاع غزة وتم إخراجه تقريبًا من تاريخ الحضارة، وجرى اصطياد عناصر حزب الله المهمة بعملية «البياجر» واغتيال قياداته المهمة بضربات صاروخية)، وتلك القوة هي الباعث لانتعاش بعض الشركات واختراقها للحدود العالمية (مهما كانت جنسياتها، فالشركات ليست كيانات خارقة للطبيعة بحيث تكون مستقلة عن تأثيرات القوة الصلبة). وتلك القوة أيضًا هي السر وراء انكماش بعض الدول وحذرها من تجاوز حدودها المدروسة (الصين مع تايوان مثلًا، ومثال آخر معروف هو: عندما تجاوزت روسيا حدودها ضرَبَها هذا النظام «الفوق قطبي» في الصميم وأخرجَها من «سويفت»، فانكشف أن هذه «الفوق قطبية» ما هي إلا مرونة في نظام العولمة يمكن لأمريكا في أي لحظة أن تحولها إلى عصا غليظة)، وقد يؤول بها واقع الأمور ومآلاتها، في النهاية، مهما حاولت، إلى «الارتماء في أحضان الغرب» (تحت لواء أمريكا) كما ذكر المؤلف نفسه في أحد المواضع من الكتاب. قد تتجه بعض الأفهام إلى أن «النظام ما فوق القطبي» ما هو إلا شكل متطور تقنيًا ومعلوماتيًا من العولمة التي هي إفراز من إفرازات نهاية الحرب الباردة، وسوف يعمل في الظاهر على أنه «فوق قطبي»، ولكنه في النهاية صدى ونتيجة من نتائج النظام العالمي المتعدد الأقطاب، تمامًا كما شهدناه في بداياته يعمل كصدى ونتيجة من نتائج نظام القطب الواحد. يرصد القارئ في الكتاب نزعة مثالية وما بعد حداثية، كأنما تتصور أنه ليس الأهم في عالم اليوم أن تتمتع الدول بالموارد ولا بالقدرة الإنتاجية، بل الأهم هو الفكر والمرونة، وكأنما تمخضت تحولات التقنية والاقتصاد عن تحويل العالم إلى خلايا افتراضية على الشاشة، يمكن التفاعل معها والتأثير فيها والاستفادة القصوى منها من خلال السمسرة الذكية والوساطة الإلكترونية والإمكانيات الخدمية التقنية والكفاءة السيبرانية، وهذه النزعة قد يفهم منها القارئ أنها تميل إلى أن الفكر قاعدة للتطور الاقتصادي، وأن العالم حر بالفعل، وكأنما القاعدة الحقيقية لا تضرب بجذورها هنالك: في الإمكانيات الإنتاجية والتحكم فيها، وفي التطور الصناعي والقوة العسكرية الضاربة ومصالح أصحابها. وعند ربط التوجه الفكري الذي يعرضه المؤلف بالفلسفات السياسية المعاصرة، يتضح أنه أقرب إلى رؤية «الليبرالية التكنولوجية ذات النزعة ما بعد الحداثية»؛ إذ يراهن على مرونة الشبكات العابرة للحدود والتشابك المعلوماتي كقوة قادرة على إعادة صياغة النظام الدولي، مع احتفاظه بإقرار ضمني بفاعلية القوة الصلبة، لكن من موقع متراجِعٍ عما كان عليه مِن قبل. وهذا التصور يبتعد عن الواقعية التقليدية التي تضع القوة العسكرية والاقتصاد المادي في صدارة التفسير، كما يختلف عن الليبرالية المؤسسية التي تشترط وجود قواعد وقيم مشتركة، ويتقاطع جزئيًا مع نظرية النظام العالمي في اعترافه بقدرة المركز على فرض الانضباط على الأطراف. لكنه يعود ليفسر ذلك بأدوات تقنية لا ببنية اقتصادية راسخة. وفي النهاية، يقدم لنا سردًا أقرب إلى التقلّب الطيفي في العلاقات الدولية، حيث تتراجع مركزية الدولة أمام تعدد الفاعلين، لكن مع ميل واضح لوصف السطح التفاعلي للنظام أكثر من الغوص إلى جذوره التحتية. أخيرًا، يصنَّف الكتاب ضمن الدراسات والقراءات اللافتة في مجالها، بوصفه نظرة تقنية منفصلة إلى «شكل» النظام العالمي «الفوقي» وآليات عمله وتواصله وتفاعله. وهو يمثّل محاولة شبابية لفتح نقاش حول صياغات جديدة لفهم العالم، من زاوية تقنية ومعلوماتية، ويقدّم مدخلًا مثيرًا للتأمل، وإن كان بحاجة إلى مزيد من التأسيس على الدراسات النقدية والبنى المادية التي تحدد مسار النظام الدولي. ما يهمني، كقارئ غير متخصص في السياسة والاقتصاد، هو ذلك السؤال الأهم الذي لا يحوم حول مصطلح «فوق القطبية» أو دقته، بل عن قدرة هذا النوع من التصورات على الصمود أمام لحظات الاختبار القاسية؛ فحين تتبدد الأشكال المرنة أمام ثقل المصالح المصيرية، وتنكشف حدود التقنية أمام واقعية القوة، فهل يمكن وقتَها لسردية الشبكات العابرة للحدود أن تفرض إيقاعها على النظام الدولي، أم أنها ستظل تدور في فلك القوى، التي تتقن، منذ قرون، فنّ تحويل كل جديد إلى أداة في لعبة قديمة؟ *باحث ومحرر.