طلال مداح .. أول حنين للذاكرة.

هناك، في عمق الذاكرة للطفل البعيد، لحظة لا ينساها أبدا. اللحظة التي ستظل في كل مستهل لها، تتقرّى صفحة الذاكرة البتول، وتسمّي كل الأطياف باسمها. إذاً، هذا هو المكان القصي، الذي تأخذك إليه الذاكرة، وتسعى به إليك بكل براءة، في كل مناسبة للتذكّر. طفل دون السادسة من عمره، في قرية نائية، لم تعرف بعد أرَق البعث القادم، يغالب ملل الليل الساهر بالنسبة لسنّه، يتململ بحياد تام على سرير قديم عند النافذة الخشبية التي تتلقف ضوء القمر الساطع وتمرر وهجه إلى منتهى وسعها داخل الغرفة دون أن يخدش كرامة النائمين فيها. والطفل يتلمّس أي شيء يقطع به هذا الملل الوعر حين تذكر مذياع والده على الرف القريب ليلوذ به مسليا ومغلّبا على رمضاء السرير، ويدير مؤشره كيفما أتفق، قبل أن يقف على صوت ينبعث من هذا الصندوق الذي يفوق سعة صدره النحيل وهو يضعه عليه، يبشر بأغنية لطلال مداح. أول مرة يسمع باسم طلال مداح، ومن المؤكد، أول أغنية لطلال مداح. والنغم الصاعد ينبعث بردا وسلاما على المشاعر الجاهزة للتّلقين. وخيال الطفل الأن، يدور في أفلاك بعيدة، لا يعرف لها شكلا، سوى أنها تشبه الخلاء الربيعي الذي يبعث بسكونه وضوع شذاه المنعش من خارج النافذة. وهي أوضح صورة يمكن لخياله الغض أن يتصوّرها في هذه اللحظة، التي صارت مفتوحة على مداخل الأعالي، وهي تتعرّج بجدل الناي، والعود، والصوت الطروب، الذي يفضّ الجدل ويتقدم به إلى براح الشجن الأعظم. ولاحقا، حين كبرت، وصارت الطريق غير الطريق. وصادف، أنني كنت والصديق جابر القرني، في زيارة مفاجئة لطلال مداح في بيته. هكذا عنّ لنا الأمر وكنا نعبر قريبا من بيته رحمه الله. وطرقنا الباب دون سابق موعد أو أتصال. كان العام (٢٠٠٠)، والمساء، هو المساء السابق لمساء حفلته الشهيرة في درّة العروس بمدينة جدة، وهو استقبلنا بحفاوة المنتظر، إذْ بدأ مرحبا ومتقدما لنا بذات الانشراح إلى غرفة الاستقبال. وعلى الرغم من أنه كان يبدو مرهقا من أثار برد تبدو واضحة عليه، إلا أن كل محياه الباسم ينهض بالترحاب والطيبة الصافية. لم تكن المرة الأولى التي أرى فيها طلال مداح. فقد سار صوته معي كل السنوات التي مضت. ورأيته عن قرب في مناسبات قليلة متباعدة لعبت فيها الصدف دورها الأكيد. وطلال مذ تعلقت بصوته في تلك اللحظة القصية التي شكلت وجداني الطري حينها، إلى الداني من الوجدان الذي يتألّق فيه نبت الزهر وثقة الرهان المؤكد. وهو أغنية كاملة شاملة تهذّب القلب وتستفيق نوّمه عند كل مناسبة تتألق فيها المقادير بشكواها المباحة. أيّ حميمية هبطت على الجلسة وأنا أقول له.! ـ لو تعرف ـ أبا عبدالله ـ كيف أخذتني الصدفة المحضة إلى أول أغنية اسمعها لك عبر بث “الراديو” وأنا طفل دون السادسة في قرية بعيدة.! ومن تلك اللحظة وكل أقداري مصاغة على فحوى أغانيك.! والتفتَ ناحيتي بهيئة طفل كبير، واضعا كل برأته في أواصر استفساره المتلهف. وحينها قلت له: “ ما تقول لنا صاحب”. ولكن أيّ مفاجأة يمكن أن تخطّ هيئته وهو يتراجع للخلف مندهشا، ثم يعود سريعا بتلك الهيئة الطفولية الغامرة ويشير بيده إلى “خالد أبو منذر” مدير أعماله حينها، ملزّما أن تكون هذه الأغنية في جدول الحفلة. بينما كنا كلنا تنطبع على شفاهنا ابتسامة الموقف. وفي الليلة القادمة سوف ننشغل عمّا حدث في المساء السابق. لكن طلال يفاجئنا، ويفاجئ الفرقة الموسيقية المرافقة له، بأن يجمع فراسخ الذاكرة لأغنية صارت الأن في القصي من الزمن، ويعيدها إلى ديمومة الانبعاث، بروح الوميض الحنون لسرير طفل يهتزّ. والفرقة ترتبك قبل أن تتدارك الأمر وتتبع مقام وتر عوده. ...... ...... رحم الله طلال مداح.