طلال مداح ..

سادن الذوق وملهم الشعراء .

لم يكن طلال مداح مجرد مغن مر على مسرح الفن والحياة ومضى، بل كان معلما رفع ذائقة الناس الفنية وصقل ألسنة الشعراء في خطواتهم الأولى على أرض الشعر، حتى أضحوا يكتبون قصائدهم على صدى صوته ، كان أستاذا في تذوقه العالي لما يغني وإنسانا جسد في سيرة حياته وقصصه مع البسطاء ما يمكن أن بقال أنه عاش حياته كما ينبغي للناس الأنقياء أن تعيش. شغف حبا بوطنه وأرض بلاده، فكانت أغانيه استكشافا لهذه الأرض وبوصلة لهذه البلاد، استذكرنا الطائف وهواءها العليل ورخاها وسمعنا خرير الساقية ونحن نستمع إلى أغنية “جينا من الطايف” التي كانت مصيف بلادنا الأول، وأحبها جيل الستينيات وازداد حبها وغلاها عند كل الأجيال عندما عرفنا أن لها محبة في قلب الملك سلمان حفظه الله الذي يستذكر مطلعها كلما جاء ذكر للطائف كما يقول الأمير سلطان بن سلمان. و مطلع أغنية «جينا من الطايف» كان «زومالاً فولكلورياً» قبل أن يقوم الفنان لطفي زيني باكمال الأغنية وزرنا أبها حين غنى “شفت أبها” في المراعي، ولمسنا خضابها ولمعة حزامها ونحن ننصت إلى الأغنية،وقد استطاع طلال أن يجسد أنسنة مدينة أبها في كلمات الشاعر أحمد رجب: لا تلوموني في هواها .. قبل ما تشوفوا بهاها هي بس اللي هويتها .. قلبي ما يعشق سواها قلبي حبك والله يا ابها انتي أجمل م الخيال .. قلت ادخل اشوف جمالها .. اشوف بهاها اشوف دلالها .. لا تلوموني في هواها قلبي ما يعشق سواها شفت ابها لابسة حلة والحزام ذهبي جميل .. شفت ابها قلبي احتار والخضاب خلاني اميل .. وفي أغنية “حايل بعد حيي” للشاعر مسلم البرازي، تخيلنا جبلي أجا وسلمى وتساءلنا فيما بيننا عن معاني “حيي” و”عزوتي”، وجال بنا طلال في ربوع بلادنا حين غنى “قولوا للغالي قولوا له” من كلمات الشاعر الراحل فالح التي تقول كلماتها: قولوا للغالي قولوا له ... وش هو له يبطي وش هو له ما جا ولاجا مرسوله ... والحب الله يكفي شره انا عليل الضماير ... انشد واسوق البشاير همي زاد وفكري حاير ... فارقني والفرقه مره امشي وانشد عن مضنوني ... واسهر وانتم ماتدروني دامي ما شفته بعيوني ... ماترقد عيني منسره اترك سكه واقضب سكه ... لقيت ابوابٍ منصكه جيت الطايف واهل مكه ... قالوا ماشفنا له جره جيت اهل ابها واهل الوادي ... انشدهم حضر وبوادي قالوا عود يا النشادي ... ماجا الدواسر والمره وانشد شمر وانشد علوى ... واهل قطر واهل سلوى قلت انا مبليٍ بلوه ... في زين المبسم والغره قالولي وشلون اوصافه ... نرسله له ناسٍ عرافه تجوب بنجدٍ واطرافه ... تنشد وتلقى مقره قلت اوصافه يا خلق الله ... كامل والكامل وجه الله في عيني مامثله والله ... قلته مره بأثر مره. حدث هذا قبل أن يأخذنا الاعلامي خالد زارع في جولة على الوطن في برنامجه الناجح والمؤثر “ربوع بلادي”. روى الزميل عبدالله الصبخان ونح في اجتماع الإعداد لهذا الملحق، أن فكرة أغنية “قولوا للغالي” ألهمته لكتابة إحدى قصائد البدايات وهي “وضاعت حكاياك يا شهريار” : وفتشت في كل دار قطعت الفيافي وجبت القفار وصفتك للبدو في كل واد سألت عذارى البحار أجابوا وضاعت حكاياك يا شهريار سألت بطاح الرياض وريح الشمال لعلها مثلي هوتك ولم تدرِ أني عليك أغار وفتشت عنك ببطن تهامة جبت السراة وكلٌ يتمتم في رحمة : وضاعت حكاياك يا شهريار سألت الخليج لعلك تهوين سكنى المحار وهمت إلى مكة النور علك تهوين أم الديار وكلٌ يتمتم في رحمة : وضاعت حكاياك يا شهريار وفي يثرب الكون فتشت عنك سقى الله بالخير تلك الديار سألت صبايا الحجاز وفتشت في كل سوق ودار أخيرا وبعد الدوار ولفح القفار وجدتك في داخلي تسكنين وجدتك يا درتي تمشطين جدائل شعرٍ كموج البحار. حمع طلال في مساحة صوته لهجاتنا المحلية فغنى بالحجازية والنجدية،ولهجاتنا العربية فغنى باللبنانية و السورية والعراقية والتونسية والمغربية والسودانية واليمنية، وهذا يعكس موسوعيتيه في اللهجات الشعرية العربية وحبه للوطن العربي ولا أعتقد أن فنانا عربيا فعل هذا. أحب الناس “طلال الإنسان” وهم يسمعون قصصا مغرقة في الإيثار ومحبة الخير، يروي الأمير بدر بن عبدالمحسن أن مواطنا طرق باب منزل طلال في آحدى الليالي ولما فُتح له الباب قال بصوت غارق بالحزن نادوا لي الأستاذ طلال ولما التقاه قال له “والله ياطلال زواجي الليلة وما استطعت أدبر قيمة المهر” ، لم يكن طلال بعرف الرجل ولكن النخوة التي استوطنت دماءه جعلته يدخل إلى أهل بيته ويطلب من زوجته الوفية “أم عبدالله” أن تعطيه ذهبها ومصوغاتها ليعطيها الرجل ويقيل عثرته. تكفي هذه القصة لتجسد روح طلال الإنسان. لهذا كله وهو غيض من فيض طلال، نستذكر اليوم تجربته الفنية المتفردة بعد مرور ربع قرن على رحيله. أسرة التحرير