هل تغيّرت وظيفة الأدب؟

في أرضٍ لا نهر فيها ولا شجر، نشأت أمةٌ جعلت من الكلمة نبعًا ومن الشعر وطنًا. أمةً تعيش على وَقع الحرف، تُسافر في القصائد، وتُداوي جراحها بالبلاغة. الكلمة لم تكن تُلقى عبثًا، بل تُوزن كما يُوزن الذهب، ويُحتفى بها كما يُحتفى بالنصر. كان الشاعر لسان قومه، وكانت مكانة الأديب لا تقل عن مكانة الفارس، بل ربما فاقته أثرًا وتأثيرا. لكن الزمان دار، و تبدّلت ملامح الثقافة إذ تغيرت المنابر واستُبدلت الأسواق بالمنصات، وتحوّلت القصائد من رسالة وجودية إلى منتج بصري سريع الهضم. وصارت الثقافة السائدة تروّج لفكرة أن القيمة تُقاس بمدى القبول الجماهيري، حيث حوّلت المنصات الرقمية “نظرات الإعجاب” إلى أرقام، والمشاهدات إلى مؤشّر للانتشار، وكم التعليقات إلى مقياس للتأثير؛ مما خلق حلقة مفرغة: كلما نال المبدع اعترافًا، ازداد نهمه للمزيد. يكفي اليوم أن ينشر الكاتب نصا في مساحة رقمية — تغريدة في “تويتر”، منشور في “فيسبوك”، أو مقطع قصير في “تيك توك” — حتى يُحاصره السؤال: هل أعجب به الآخرون؟ كم مرة أعيد نشره؟ هل علق وانبهر أحد؟ من هنا، بدأ كثيرون يعيدون تشكيل ذواتهم كعلامات تجارية، يتحدثون بما يُرضي الجمهور، لا بما يُرضي الضمير. وتحوّل المبدع من باحث عن المعنى، إلى راصد للردود، تتحكم فيه الأرقام، وتُعيد تشكيل صوته وفق ما يطلبه الجمهور. وهكذا، حين انتقلت الكلمة إلى فضاء المنصات، تغيّر شكل التلقي كما تغيّر شكل التعبير. فالتقنية، وإن فتحت الأبواب على مصاريعها فقد أغلقت نوافذ التأمل والإنصات. فلم نعد نكتب لنطرح أفكارًا، بل لنثير الإعجاب، ولم نعد نقرأ لنفهم، بل لنستهلك المعرفة دون أن تترك فينا أثرًا حقيقيًا. فهل تغيّرت وظيفة الأدب من التنوير لصالح الترفيه؟ هل ما زال قادرًا على تشكيل وعي، أم أصبح مجرد “برستيج” جمالي اجتماعي ؟ وفي زمنٍ يُقاس فيه كل شيء بالأرقام، هل مازال للكلمة قيمة؟ أسئلة مفتوحة، والإجابة مرهونة بضمير كل قارئ... وكل كاتب.