( رَشْفَة )

كلَّ مساءٍ، أَلثِمُ كأسَيْنِ من حضورٍ مختلفٍ؛ لا أحدَهُما يَغار، ولا أنا أكتفي. الشايُ ناعمةٌ كالسِّتر، تغسلُ همسَها بماءِ النعناع، تأتي بهدوءٍ مترفٍ يتسلّلُ في خاصرةِ الوقت. تكتمُ نظرتَها وتتركُ عطرَها يتكلّم، تذوبُ فيَّ كما ينسكبُ الحياءُ بين أهدابٍ أدمنتِ التمنّع… إن أهملتُها خمد دفؤُها، وإن انتظرتُها، باغتتني بدفءٍ يشبهُ الاحتضان من خلف الوقت. والقهوةُ فتنةٌ داكنة، لا تدخلُ من الباب، بل تتسلّلُ من الشقوقِ ببطءٍ تعرفُ لذّتَه. تأخذُ وقتَها في النزول، كأنها تدرك أن اللهفةَ تسكنُ الضفاف. لا تلمسُ فمي، لكنها تشعلُ أطرافَهُ بنَفَسٍ حارّ، وتتركُ فيّ أثرًا لا يزول. لا تُروَّض، تكسرُ مواقيت الحلاوة كنزوةٍ تمردَت ثم ابتسمت، تُغلق الحديث وتُبقيني معلّقًا بين ارتباكِ الرشفة، وحقيقةٍ لا أُسمّيها. الشايُ سجدةُ سكون، والقهوةُ ترنيمةٌ على الحافة، تغويكَ لتغفرَ لك. وفي لحظةِ غفلة، تسلّلت إليَّ، تعثرتُ بسؤالٍ انسلّ دون استئذان: هل كنتُ أرتشفُ الطعم؟ أم أتهجّى نفسي في مرآةِ الرشفة؟ أأهربُ من فراغٍ يتّسع في صدري إلى فتنتين؟ أم أرجو سِترَ الغواية بما يشبه الطمأنينة؟ أأُقبّلُ النكهة؟ أم أبحثُ عن وجهٍ يُصغي لرجفتي؟ أأُحبهما؟ أم أسقِطُ بينهما حنيني لمعنى لا اسمَ له؟ ثم أعود… الشايُ تُلقي ظلًّا يشبه البقاء، والقهوةُ تفتحُ نافذةً وتدلّني على جهة الرحيل. وبين ذاك الظل وتلك النافذة، أمشي كمن يُرتّب اشتعالَهُ على مهل، وأكتب على فوّهة الكأس: “أنا لا أخون، أنا أتهجّى الفتنة من كأسٍ إلى كأس”. الشايُ تمسحُ قلبي بإصبعٍ من ضوء، والقهوةُ تندسُّ في وريدي كأنّها تُصلّي بدمي. الشايُ تُلبسني الضوءَ، والقهوةُ تنزعُ زرًّا في كلّ رشفة. ليس بيني وبينهما سوى رعشةِ شهيق. وأنا لا أُجيد القطيعة، بل أتلذّذُ بالتردّد كأنه عناقٌ مؤجّل.