في كتاب ( عيال البِسَّة ) لداود الشريان ..

عمقٌ في الأفكار المحتجبة بواجهة رمزية.

( … هذا الموقف جعلني أرى المواضيع الملقاة على قارعة الطريق والتي كان يراها العجيان ،أبصرتُ الصحافة معه ،كان صحافياً يكتبُ الجملة القصيرة ويحترم معايير الخبر ،لم يكن في جيله ولا مَنْ سبقه مَنْ يكتبُ لغة الصحافة الحديثة مثله ،محمد العجيان أولُ مَنْ نقل اللغة في الصحافة السعودية الحديثة من الجملة الأدبية إلى النص الصحافي وأفسح في المجال للنص الموضوعي والجملة المباشرة وهو الأب الروحي للصحافة السعودية الحديثة من دون مبالغة ) . من كتاب ( عيال البسة ) الطبعة الثانية،مقدمة الكتاب وهي بعنوان ( العمود هو الرجل ) . الكتاب في عنوانه اللافت (عيال البسة) صادمٌ ومحفزٌ،في ظاهره التكثيف وفي باطنه التعمية بالرمزية التي تستدعي المساءلة لانتقاء العنوان المثير بهذه الإشارات المضمرة ،والعنوان هنا لا يشي بأي ملمح مبكر عما يحتضنه الكتاب،ولكن العنوان يُستخدم باحترافية صحافية خبيرة،فالترميز اللغوي يبطن كماً من المدلولات غير المرئية مباشرة ابتداء . ولما كان العنوان مخالفاً لأفق توقعاتنا للوهلة الأولى فلم تعترينا خيبة التنبؤ جراء انحياز العنوان إلى الكنايات وحسب وإنما آزر من شدة الانجذاب إلى رسالة الكتاب التي يتقصَّدها المؤلف ويودُّ إيصالها بدهاء لغوي عبر استخدام أسلوب ماكر محشو بالمجاز اللغوي متقن الكناية . ولكن الكاتب أيضاً يذهب سريعاً إلى التصريح إذا احتاج الأمر للحقيقة واستدعت الضرورة الكلام المباشر ، فيصرح (المقالات المنشورة في هذا الكتاب كُتبتْ بين الفترة ١٩٨٧ وحتى ٢٠١٥ ، وليستُ مَنْ قام باختيارها من بين مئات المقالات التي كتبتُها في تلك الفترة ،قام بهذه المهمة صديقٌ وهو صحافي وكاتب ،أرسل الكتاب عبر إيميل كتب فيه “صباح الفل عليك،هذه هي أول نسخة من الكتاب ،أنا متحمسٌ له جداً وسعيد به وأعتقدُ أنك لا بدَّ أن تكون فخوراً لأنك كتبتَ هذا الكتابة الجميلة التي لم يكن يصحُّ إلا أن تُجمع في كتاب “ . وحماسة الصديق أبورباح أصابتني بالعدوى فكان هذا الكتاب ،فله مني كل الشكر والامتنان . هذه المقالات تعبيرٌ عن رحلتي مع العمود الصحافي عبر سنوات، وكان لزوجتي دورٌ في نقد هذه المقالات قبل نشرها ،وهي كانت نعم السند لي في هذه الرحلة، فلها كل العرفان والامتنان) مقدمة الكتاب التي كُتبتْ في تاريخ ٢٠٢٣/١/٢٠ في مدينة الرياض . العجيب هو إصرار الكاتب على تدوين تاريخ المقدمة ومكان كتابتها ، وهذا من حذاقة الكاتب،ولستُ أدري كيف زهد عن كتابة تاريخ كل مقالة،وأين كان نشرها،وفي أي الصحف أو المجلات نشرتْ ، وكيف تنازل بسهولة عن فهرسة المقالات !؟ بالعودة إلى سبب العنونة للكتاب الذي هو في أصله عنوانٌ للمقال الثالث في الكتاب وهو بعنوان (عيال البسة) من ذلك المقال القديم أُخذ العنوان، فقد استدرج العنوان من عالم القطط وصيغ العنوان بعناية المطلع على حياتها الفعلية فهي كما يقول : لا تهتم بمشاعر أولادها أو رفاهيتهم،وتكتفي في تعاملها معهم بالمحافظة على الجانب الأمني فحسب . فإذا أحستْ أنهم في خطر فإنها سرعان ما تنقلهم إلى مكان آخر ،ولا يهم أن يكون هذا المكان بارداً أو حاراً أو قذراً أو نظيفاً ،المهم أن يكون آمناً ،ولهذا صار الناس يقولون : (حنا عيال البسة) إذا أحسوا أنهم يُعاملون بمستويات متدنية أو يُخاطبون بطريقة غير لائقة . والحقيقة المجربة أنَّ هذا المثل الشعبي مؤكد ويحدث دائماً في عالم القطط،وهذا الوجه الظاهري للمقال ،وأما الوجه المخفي فهو أنَّ الغرب يدرك تماماً أنَّ الدول النامية أو دول العالم الثالث متعودة على التعامل مع شعوبها بأساليب القطط أو البسس ،وأن الشعوب الغربية معتادة على أن دولها تهتم بتفاصيل حياتها الهنيئة وتسعى هذه الحكومات إلى رفاهية أبنائها،والخلاصة أنَّ الناس في هذه الأرض غالباً إما عيال كلب فيعيشون في رفاهية وسعادة وإما عيال البسة فيعيشون في ضنك وتعاسة،وتعمل الدول المتقدمة شرقاً وغرباً بدأب على إشغال الشعوب المتخلفة بأهمية الهاجس الأمني في حياتها سواء على مستوى الدول أو الجماعات أو العرقيات أو الطوائف،وكل ذلك لاستغلال الناس واستغفالهم وامتصاص خيراتهم . وبقيت مفردات ( الكلب والكلاب والقطط والبسس ) تلاقي سيطرة في ذهنية بعض المقالات واستمر البس حاضراً في لا وعي المؤلف حتى آخر الكتاب مثل المقالة الساخرة (الشماغ والكرافتة)فيقول : ( وإذا قرر السهر مع الشلة فسّر الأكمام ورمى الغترة وحمل باكيت السجائر “ أبو بس “ ) . وأنا أزعمُ أنَّ هذا النوع من السجائر لم يشاهد بعد ١٩٨٠ م إلا نادراً . تبلغ المقالات في الكتاب بضعاً وثمانين مقالة وهي متنوعة ومتعددة منها المقالات التي تُعنى بشؤون الصحافة وهمومها واهتماماتها،وفي هذا النوع نصادف عنوانات لا تبعد عن عتبة العنوان الأولى مثل (الصحفي ابن عم الكلب) وفيها أجواء من المقارنات الحقيقية بين معيشة الكلب حسب المثل الذي أورده (الفقير ابن عم الكلب) والمقاربة هنا مع حياة بعض الصحافيين الذين تعاقدوا بعزم مع الفقر فصاروا يعيشون في أوضاع مزرية لا تضمن لهم رغد العيش الكريم وخاصة حينما تلمُّ بهم نوائب الدهر ومصائبه . ولعل المقال (انكسر الشاهد) يأتي على بعض من المعاناة الجانبية التي تدهم الصحافي فتنغص حياته،ولا يكاد ينجو منها حتى كبار الصحافيين،وقد مثَّل الكاتب بوقائع في حياته المهنية . إنَّ اتصاف المقالات بصبغة الرمزية لا يعني بالضرورة أنَّ الكناية والرمز ضربة لازب وإنما كان التصريح حاضراً كلما اقتضى الأمر ذلك وكلما كان أسلوب التلميح قاصراً وغير مجدٍ ، فيرتدي الأسلوب قفازات الملاكم فيعدو كفرس امرئ القيس ويلسع كدبور مستفز وخاصة في المواضيع ذات الصبغة الثقافية مثل :(حكايات الكلاب الهاربة ، المثقفون والطقاقات ، المثقفون والصالونات ، ديموقراطية الطقاقات ، مَنْ يغلق الهواء الطلق ، التتن والتميس والهيل ، مَنْ أَمِنَ العقوبة شقَّ بطنك … ) ولعل أوضح نموذج ،في تصادمه مع الظاهرة التي يرى فيها نتوءاً أو تقصيراً، هو مقال بعنوان (مواطي البعارين) . الوضوح في الأسلوب الذي يأتي صريحاً وعلى الحقيقة الجلية ودونما رمزية كان مستخدماً أيضاً في الموضوعات ذات الطابع السياسي أو المقالات التي أخذت تناقش قضايا مجتمعية أو المقالات التي تعالج الشؤون اليومية سواء على المستوى المحلي أو حتى على الصعيد الأقليمي والدولي أو المقالات التي تناولت أحداثاً مستجدة وطارئة في واقعنا مما تتسم به حياتنا من ظواهر غير مسبوقة،ويتجلى ذلك في عدة مقالات منها ( كلينتون يثير القش ، قصة حنَّة وعائشة ، زياد… أما بعد فإنك أخي ، مَنْ قتل التيس ، كلام عن الرز باللبن ، دول طوق الحمامة ، رسالة إلى عمرو بن كلثوم ) . اشتغلت المقالات كثيراً على الواقع الاجتماعي والقضايا النسوية وعلى هموم المواطن وما يعترضه من إشكالات في مراجعاته للدوائر الحكومية،ونالت هذه الموضوعات جانباً واسعاً من الكتابة،واستدعت هذه المقالات أسلوباً لاذعاً من السخرية والجرأة في التداخل مع بعض المظهريات السلبية في المجتمع مثل المقالات : الشماغ والكرافتة ، حين ولدت فاطمة ، ولعل أبرزها “ التحرش ليس جريمة “ وهذا المقال كان داعياً إلى لفت الأنظار لهذه الممارسة القبيحة والمسيئة اجتماعياً وتعوزها العقوبة الرادعة لمثل هذه النزوات بعد أن يتم تجريمها، وهو ما تحقق لاحقاً . يلفت الكتاب نظرنا إلى قدرة الكاتب في اعتماد أسلوب السردية الصريحة واتخاذها أداة فعالة لجلب النظر واستقطاب القراء مسايرة لما يرومه الكاتب من التواصل الناجع مع المتلقين ،فبثَّ في المقالات روحاً من القصص المتعددة والمتنوعة وبعضها يتكئ فيها الكاتب على مقدرته العالية في الإلمام بالثقافة الشعبية وبالموروث المتداول من الحكايات الشفهية والأمثال والأقوال المتداولة محلياً ،نرى ذلك بارزاً في : حتى الديك انهبل ، شاهد قبراً أخضر ، قصة المغمض ،زوجة الياباني في السعودية ، السيد بصل ، قصة حماد وأهل القرية . أعجبني الكاتب كثيراً في جعل نهاية الكتاب من باب ختامه مسك فكانت (في العودة إلى أمي ) مقالة رائعة في الوفاء ،وهي آخر مقالة مكتوبة (ستبقى أمي معي وبجانبي،وغيابها رغم قسوته لم يقطع وصلها بي . مازال حضورها طاغياً في حياتي، أتذكرُ كلماتها،نكاتها،ضحكاتها،غيابها، أطفأت أمي ضوء غرفتها،لكنها لم تودِّعني،بقيت تحدثني وهي في العتمة،أرى عينيها،وأسمعُ صوتها تقول : داود غني وغنيتُ يا ناس هذا جناني) •