محمد إبراهيم يعقوب يقرأ تجربة علا الله طاهر ..

ذاكرة الحجر والماء: لم يمرّ أحد!

يظلّ كتاب إحسان عباس «بدر شاكر السياب: دراسة في حياته وشعره» ـ في اعتقادي ـ من أهم ما تناول تجربة السياب الشعرية في ضوء حياته كلها، «إن دراسة الشعر على مجلى من الحقائق التاريخية لا تعني انتقاصاً من السمات الفنية»، كما يقول إحسان عباس، بل على العكس تماماً، «كذلك فإن دراسة دخائل النفس لا تعني تشخيص علّةٍ ما لدى الشاعر من أجل التحليل النفسيّ ذاته، وإنما هي وسيلة لفهم طبيعة المنابع التي فاض الشعر عنها»، والحديث للدكتور إحسان عباس. ولا شكّ من أنّ هذا التناول لتجربة السياب يُحيلنا إلى كتاب فوزي كريم «شاعر المتاهة وشاعر الراية»، والذي يُعدّ فيه بدر شاكر السياب نموذج شاعر المتاهة بامتياز. ومن هنا سننطلق إلى قراءة تجربة علا الله طاهر الشعرية. يسعى الإنسان في هذا العالم إلى اعترافٍ ما. علا الله طاهر شاعرٌ يمنيٌّ عاش كلّ حياته في منطقة جازان بالمملكة العربية السعودية. حصل ديوانه «ذاكرة الحجر والماء» على جائزة الشارقة للإبداع العربي ـ الإصدار الأول في دورتها الثامنة والعشرين. نشأ علا الله طاهر في جازان، تعلّم الشعر من (بحرها)، وركض في (حاراتها)، شكّلت جازان تاريخه كلّه. ولا بدّ أنه كان يلتفت من قلقٍ إلى آخر، ومن حزنٍ إلى آخر، ومن وحشةٍ إلى أخرى، إلى ما يُسمّى (البلاد) التي في البعيد، ولكن لم يمرّ أحد! إنّ الشعر الحديث ـ كما يقول فوزي كريم ـ لم يعد يُقدّم أجوبة، بل يعرض قلق وتساؤلات الإنسان إزاء العالم. هل كان علا الله طاهر غريباً هناك، وغريباً هنا! يفتتح الشاعر تجربته في الديوان، بسؤالٍ أخذ منه عمرهُ كلّه: «من أنتَ يسألني المُسمّى بالبلدْ؟!» وتأتي الإجابة صادقةً على حدّتها، وحادّةً على صدقها، لكنّه تمثّل علا الله تماماً: «أنا غربةٌ أبديّةٌ، أنا لا أحدْ» هكذا، يأخذ الشاعر بأيدينا إلى نصٍّ يُحاول تعريف ما ليس موجوداً في الأساس، إلا من بقايا ذاكرةٍ، يُشكُّ فيها غالباً. وهذه الغربة بالذات هي مقام تجلّي حرية الشاعر بحيث يكون هو هو. غريبٌ ينتمي إلى تجربته الخاصّة، دون الاشتباك مع المقاربات التي لا تنتهي مع فكرة الغريب منذ أبي الطيب: «إنّ النفيس غريبٌ حيثما كانا» على طريقة المتنبي، إلى محمود درويش وإيقاعاته الفلسفية على دلالة «الغريب». وليست الغربة فعلاً جغرافياً دائماً، فالشاعر لم يمتحن الأرض ليكتشف غربةً ما في الأصل، لا بلاد يتّكئ عليها نفسياً ليُقارن ويكتشف، إلا عبر ذكرى ما، بحيث: تشدّني فكرةٌ ما ثمّ أتركها غريبةً كبلادٍ أصبحت ذكرى ص 9 فالبلاد كلّها أصبحت ذكرى، وهي بذلك استعادةٌ مُرّةٌ لما لم يكن. هذه البلاد التي تُعرّف: وهوّية الوطن الكبير تمزّقت أحلامه وتمزّق السكّانُ ص 29 هو المنفيّ عنها طوال عمره: فكيف بي وأنا المنفيّ عن بلدي كأنني وردةٌ لم تعرف العبقا ص 97 وعندما عاد إليها ذات إكراهٍ: ماذا وجدت؟ بلاداً لستُ أعرفها وحزنها حجرٌ يبكي على حجرِ ص 69 ولا يمتنع أبدا عن الاعتراف بهذا التعب الممضَ في البحث عن هذا الوطن الذي لا يراه: تعبتُ أبحث في الصحراء عن وطنٍ أُلقي عليه ظلالي أمّحي ليرى ص 56 ولمّا لم يجد هذه لأرض على الحقيقة، أصبحت الأرض كلها هي بيته: بيتي هي الأرض لا أهلٌ ولا بلدُ يمضي بيَ العمر دهراً حيث لا أحدُ ص 31 كان الشاعر وفيّاً لتجربته الروحية تلك، وظهر ذلك جليّاً في معجمه الشعريّ المليء بالحزن والقلق: وكان صمتي صدى للحزن يخنقني جداً وصوتي بليغاً كان في الأسفِ ص 100 ويقول في تناصّ مع المتنبيّ لا يمكن تجاوزه: وأمسكتُ بالريح انطلقتُ مسافراً على قلقٍ والتيه يركض في المدى ص15 وهذا الحزن، هو هويّةٌ ليس بوسعه إخفاؤها: نُحاول أن نُخفي ملامح حزننا فيكشفنا وجهٌ شرودٌ مسافرُ ص 72 ولا سبيل إلا هذا الحزن في وضوح جارح: دع حزنك الشخصيّ قلتُ له: أنا حزني على شعبٍ يُفتّش عن بلدْ ص 5 ومن ملامح وفائه لروحه في هذه التجربة، احتفاء الشاعر بوطنٍ بديلٍ ـ جازان، التي تشكّل فيها شاعراً وإنساناً، هنا شاعرٌ يكتب بإحساسٍ عالٍ: في هذه الأرض حتى الماء مختلفٌ فإن شربتُ بأرضٍ غيرها أشرقْ خرجت للشعر طفلاً من شواطئها وما ركبتُ سوى ريحٍ إلى المطلقْ وما ذهبتُ لشيخٍ كي يعلّمني فبحر (جازان) كان الخِضر والزورقْ ص 36 لكنّه كان واعياً بهذه الغربة التي فُرضت عليه، فهو مسافرٌ أو يكاد، ورحّالةٌ في هذه الأرض بلا جهةٍ ولا بوصلةٍ ولا طريقٍ، وينثر هذه الفكرة طوال قصائد الديوان بوضوح موجع: مسافرٌ زاديَ الحرمان راحلتي منفى ودربي خطايا، صاحبي الكبدُ أحتاج سرديّة ليس مكرّرةً تُعيد ترتيب ألواحي وتنتقدُ ص 32 وكلّ الأرض تخونه في هذه الرحلة: مسافرٌ منذ عقدٍ كلما نبتت أرضٌ حصدتُ عناقيد الخياناتِ ص 39 ويُسمّي سفره غيماً إزاء جفاف البلاد: ولا يزال مسافراً غيمي إلى أرضٍ يحاصرها جفافٌ نازحٌ ص 64 ويُصرّ على مسّ الجرح عميقاً: كلاجئٍ لم يجد بيتاً ينامُ بهِ فراح يرسم بيتاً ثمّ نام بهِ ص 47 تجربة علا الله طاهر في ديوانه «ذاكرة الحجر والماء»، تجربة تنبني على تقنيات القصيدة العمودية في تحديثاتها، تعيش لحظتها، وتنتمي إلى واقعها الفنّي، تقرأ، وتتماهى مع تجارب جيلها، خاصةً أن كتابة هذا الديوان امتدّت لسنوات، لكنها تتجلّى بوفائها لذاتها، لهمومها، لهواجسها، لأسئلتها التي تنفتح على وجعٍ من الطرفين، وهنا تكمن خصوصيتها في هذا الوفاء للروح التي لم تبرأ بعد: وقفتُ مُذ قيل يوماً للحياة قفي على رصيف انتظارٍ كنت فيهِ وفي ص 99