التشكيلية السعودية عواطف المالكي :

لي جداريات عملاقة تحت الأرض وفوقها.

الفن التشكيلي نافذة تعبيرية قوية تعكس الأصالة والموروثات، يمكن من خلالها تجسيد تفاصيل العادات والتقاليد والثقافة بطرق إبداعية، هذا الارتباط الوثيق بين الفن التشكيلي والموروث الثقافي قد أجادته فنانتنا لهذا الأسبوع؛ الفنانة التشكيلية عواطف عبدالعزيز المالكي، التي تنقلت بين العديد من مدن المملكة كي تثرى تجربتها الفنية وتلهمها لتجسيد الصحراء والخيل بأسلوبها الخاص، مفتخرة بهذا الموروث الذي يعبر عن قوة وأصالة المملكة، كما تأثرت بالشعر واستقت من قصائد الأمير بدر بن عبدالمحسن ومساعد الرشيدي وغيرهما، لتدمج بين الثقافتين الأدبية والفنية في مزيج فريد يعبر عن روح القصائد والكلمات، عشقت رسم الحرمين الشريفين والأماكن المقدسة، أضفى على أعمالها لمسة روحانية عميقة، تعكس مشاعرها وأحاسيسها الفنية بصدق وإبداع، وكانت لها تجربة مميزة في تصميم الأزياء التراثية. في هذا الحوار، سنغوص في أعماق تجربتها الفنية لاستكشاف المحطات المهمة في مسيرتها الفنية والتعرف على التأثيرات الثقافية والشخصية التي شكلت أعمالها. * لو عدنا إلى بداياتك الفنية؛ كيف أثرت رحلاتك وتنقلاتك بين مدن ومناطق المملكة على تطور أسلوبك الفني؟، أقصد ما هي التأثيرات الثقافية والشخصية التي شكلت رؤيتك الإبداعية؟ ** تنقلاتي بين مدن المملكة كانت لها بصمات على نفسيتي وروحي، وبالتبعية على أعمالي، فكل منطقة لها عادات وتقاليد ولون وثقافة شعبية تقليدية مختلفة، كل هذه الأشياء شكّلت منّي شخصية تستطيع أن تجسد كل ذلك في عمل فني يخبرك بأن كل مناطق المملكة مختلفة عن بعضها البعض، وإذا تنقلت بين مناطق المملكة سترى الفرق، لكن الجميل في الأمر أنه تجمع تلك الثقافات والتقاليد ومظاهر الفلكلور في لوحة واحدة، ستندهش من حقيقة أن هذه الاختلافات تتكامل لتشكّل لوحة واحدة كبيرة وجميلة. * اهتمامك برسم الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة يعكس تجربة روحانية عميقة، فكيف تمكنت من تحويل هذه التجارب الروحانية إلى لوحات فنية؟، وما هي المشاعر والأفكار التي تجول بخاطرك أثناء العمل على تلك اللوحات؟ ** لا شك أن مكة المكرمة والمدينة المنورة مدينتان لهما وقع خاص في قلب وعقل كل مسلم، ولكن بالنسبي لي فإن حبي لهما يزداد ويتعمق بشكل أكبر نظرًا لارتباطهما بشوقي الكبير لأبي وأمي (رحمهما الله)؛ فوالدتي دُفِنَت في مكة، ووالدي دُفِنَ في المدينة، وأنا الآن أعيش بالرياض، وهذا الشعور بأنك تسكن في منتصف المملكة وتنظر لوالديك بروح الشوق كم هو رهيب، شوقي لهما يدفعني إلى رسم هاتين المدينتين المقدستين بإبداع وحنين عميق، أضع شوقي دائما في لوحات مفعمة باللون والتفاصيل التي تتناثر هنا وهناك، هذه اللوحات تخبرني وتخبر كل من يشاهدها بأن الإنسان أينما دُفِنَ تبقى روحه مع من يحب حيثما كان، فروح الإنسان تظل مع من يحب مهما كانت المسافات. * لكِ تجارب في فن الجداريات بمقاسات متعددة، قد تصل أحيانا إلى 14 مترًا، حدثينا قليلًا عن التحديات التي تواجهينها عند العمل على جداريات بهذا الحجم. ** صحيح، سبق وأن رسمت جدارية تعدت الـ ١٧ مترًا، وأخري وصلت إلى ١٤ مترًا، هذه الأعمال كانت لصالح شركة الخزن الاستراتيجي، وهي أعمال عملاقة جدا وموجودة بالشركة تحت الأرض، لذا أُعدّ أول فنانة والوحيدة في المملكة التي لها أعمال بهذا الحجم تحت الأرض مع مجموعه معينة من الفنانين، وبعدها واصلت رسم جداريات أخرى للحرمين الشريفين، وأخري عن أماكن مهمة في مدينتي؛ الرياض الحبيبة، بعض هذه الأعمال يصل الي ٣ أمتار وأكثر، بعضها من مقتنيات ديوان المحاسبة المالي بالرياض. * تأثرك بالشعر، وخاصة قصائد الأمير بدر بن عبدالمحسن وخالد الفيصل ومساعد الرشيدي والعديد من قامات الشعر في المملكة، يبدو جليًا في أعمالك، فكيف تعبرين عن هذا التداخل بين الشعر والفن التشكيلي في لوحاتك؟، وهل هناك عملية إبداعية محددة تتبعينها لاستلهام الألوان والتعابير من النصوص الشعرية؟ ** تأثرت كثيرًا بالشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن والشاعر مساعد الرشيدي (رحمهما الله)، وأصبحت حروف كلماتهما تلامس ريشتي منذ بداياتي في المرحلة الجامعية، أرسم أشعارهما بطريقتي، إما علي شكل خيول أو أشخاص، وبعدها تطورت تجربتي الفنية مع الوقت لتصبح القصيدة بأكملها جزءًا لا يتجزأ من العمل الفني، حيث يتداخل النص الشعري مع الرسم ليخلق تواصلًا بصريًا وشعريًا فريدًا. عملية الإبداع تبدأ بالاستماع العميق والتأمل في النصوص الشعرية، أجد نفسي منغمسة في الكلمات، مستلهِمة منها الألوان والتعابير التي تعكس مشاعر وأفكار الشاعر، غالبًا ما أختار ألواني بناءً على الإحساس الذي تولده القصيدة في نفسي، سواء كانت تلك الألوان تعبر عن الفرح، الحزن، الحنين أو الأمل، وبالإضافة إلى ذلك، أستخدم تقنيات مختلفة في الرسم مثل الحركات الديناميكية والخطوط المتدفقة لتعكس الإيقاع الموسيقي والوزن الشعري، لأصل في النهاية إلى عمل فني متعدد الأبعاد، يتمازج فيه الشعر والفن التشكيلي. * على ذكر الأمير بدر بن عبدالمحسن الذي فارقنا قبل فترة؛ لكِ جدارية خاصة بشعره تحت عنوان “ما ينقش العصفور في تمرة العذق” تحتوي مجموعة كبيرة من مقتطفات أشعار البدر، حدثينا قليلًا عن كواليس هذا العمل الفني، لا سيما وأنه كان من أبرز الأعمال بمعرضك “حالة فن”. ** قمت برسم جدارية بمقاس ٢٥٠ سم في ١٥٠ سم، وهي عباره عن صور للبدر (رحمه الله) وتداخل حروفه من مقتطفات من جميع أشعاره المشهورة والمتداولة، كواليس العمل كانت مليئة بالتحديات والإبداع، استلهمت تصميم الجدارية من عمق كلمات البدر وروح قصائده، كل جزء من الجدارية كان يحمل قصة وحالة شعورية معينة، حيث سعت إلى أن تعكس اللوحة روح البدر الشعرية والإنسانية، هذه الجدارية كانت بالفعل من أبرز الأعمال في معرض “حالة فن”، حيث لاقت استحسانًا كبيرًا من الجمهور والنقاد على حد سواء، وكان العمل بمثابة جسر يربط بين عالم الشعر والفن التشكيلي، مجسدًا عبقرية الأمير بدر بن عبدالمحسن وإرثه الأدبي العريق. وقد أخبرت البدر (رحمه الله وغفر له) بشأن تلك الجدارية، وقد نالت إعجابه، وحين قابلته في أحد الأيام وأخبرته بعزمي علي إكمال قصائده بنفس الطريقة، وعمل معرض فني يضم لوحات أشعاره، فرح كثيرًا ودعمني، وقال لي: “ننتظر وأكيد بنوقف معك”. * كونك ابنة الجنوب، كيف انعكست هذه الهوية على تشكيل رؤيتك الفنية وتجاربك الإبداعية؟ ** أنا من الجنوب، لكن بحكم التنقل بين مدن المملكة بتّ أشعر بأنني ابنة المملكة كلها، أنا أحمل من كل مدينة قطرة، خبرتي ومعرفتي بكل مدينة تزداد يومًا بعد آخر، وكوني معلمة اجتماعيات فإنني أبحر كثيرًا في خريطة العالم والمملكة، وأصبحت أعلم عن كل مدينة وإن لم أزرها، وقد انعكس ذلك على كل أعمالي، مثل اللون واستخداماته وكثافته من منطقة لمنطقة، هذه المعرفة الواسعة تسهم بشكل كبير في تطوير رؤيتي الفنية. * هذا يأخذنا أيضا إلى تجربة مميزة أخرى في مسيرتك الفنية، وهي تجربة تصميم الأزياء التراثية، حدثينا قليلًا عنها وما هو دور التراث الجنوبي؟ ** حبي وشغفي بتصميم الأزياء أخذني إلى الرسم على الأقمشة، وهو فن الباتيك، والرسم علي الحرير، وسبق وأن أقمت في منزلي أتيليه لمده ٤ سنوات لبيع الأقمشة المرسوم عليها لوحات فنية، وكان من بينها رسم التراث الجنوبي. * أعمالك تتميز بالجمع بين الرقة والعذوبة في الألوان والتعابير، فكيف تتعاملين مع التوازن بين إبراز الجمال البليغ والأمل والشغف بالمستقبل في لوحاتك؟، وهل هناك فلسفة أو رؤية معينة توجه هذا التوازن؟ ** أرسم لوحاتي من تجربتي بالحياة، فقد مررت بالكثير من الظروف المثيرة والغريبة، تتابين بين كونها جميلة وحزينة، تحمل متضادات من قوة وضعف، كلها لعبت دورها في تحولاتي مع أعمالي الفنية، هذه المعرفة الواسعة تساهم بشكل كبير في تطوير رؤيتي الفنية، كل لحظة تحمل في طياتها درسًا وقوة خفية، وأحاول تجسيد هذا المزيج في لوحاتي. أؤمن بأن الجمال الحقيقي ينبع من التفاعل بين هذه الأضداد، هدفي هو أن ينظر المشاهد إلى لوحاتي ويشعر بأنه يشارك في رحلتي، ويدرك أن الأمل والشغف هما ما يمنحاننا القوة للاستمرار، هذا التوازن هو ما يجعل الفن أداة قوية للتعبير عن الجمال البليغ والتفاؤل بالمستقبل. * تجربتك في رسم التراث والموروث الشعبي من مختلف مناطق المملكة كانت مميزة، كيف توازنين بين الاحتفاظ بأصالة التراث وإضافة لمساتك الإبداعية الخاصة؟ ** أنا عشقت التراث بكل بساطة، فرسمته بكل حب، التراث يمثل جزءًا كبيرًا من هويتي الفنية، ولذا أسعى دائمًا للحفاظ على أصالته وجماله. * قدمتِ تجربة فنية مميزة برسم التراث والرقصات الشعبية من مختلف مناطق المملكة، كيف تلهمك هذه التقاليد الغنية والمتنوعة في أعمالك الفنية؟ ** من خلال تنقلاتي كنت أحب حضور بعض الحفلات الشعبية، أو حتى من خلال التلفاز، حيث تستهويني تلك الرقصات، ومن ثمَّ تراقصت فرشاتي على اللوحات، حتي وجدتني أحوّل تلك المظاهر الفلكلورية إلى عمل إبداعي. * كون أعمالك مقتناة في العديد من الجهات الحكومية والشركات والشخصيات الهامة، ما هو شعورك عندما ترين أعمالك تزين أماكن هامة وتلقى التقدير من الشخصيات البارزة؟ ** شعوري هو الفخر والاعتزاز، فما أجمل أن يكون اسمي في دائرة حكومية أو جهة مهمة أو منزل أو مقر عمل شخصية مهمة، مؤكد أن هذا شيء يرفع الرأس. * التفاعل مع جمهور متنوع في المعارض داخل وخارج المملكة يمنحك وجهات نظر متعددة، كيف تستفيدين من هذه التجارب في تطوير أسلوبك الفني؟ ** النقد البنّاء والتفاعل الإيجابي هما جزء لا يتجزأ من رحلتي الفنية. أنا أؤمن بأن الفن هو لغة عالمية، والتفاعل مع جمهور متنوع يساعدني في تطوير هذه اللغة وتحسينها، مما يتيح لي التعبير عن أفكاري ومشاعري بطريقة أعمق وأكثر تأثيرًا، أنا أهتم كثيرًا بالجمهور وكلماتهم وتحفيزهم، فتلك الكلمات تغير كثيرًا من مزاجي بشكل إيجابي، عادةً لا أهتم بالنقد السلبي الهدّام، ولا أتأثر بأي حديث غير مفيد، وأسير عادةً على قاعدة ذهبية مفادها عدم النظر إلى الخلف، ومواصلة النظر إلى الأمام. * ختامًا؛ تجربتكِ في الفن تشمل العديد من الجوانب والموضوعات، فكيف ترين تطور مشوارك الفني خلال السنوات القادمة؟، وهل هناك مشاريع أو أهداف جديدة تسعين لتحقيقها في المستقبل القريب؟ ** أتمنى من الله تعالى أن أجد الدعم الأفضل من الجهات الهامة في الدولة، مثل وزارة الثقافة، ومن الجهات المسؤولة عن الفنون، لدي استوديو خاص بي يضم عددًا كبيرًا من الأعمال، أكثر من 1000 عمل، وأتمنى من الجهات التي تهتم بالفن وإبداع الفنانين أن تولي اهتمامًا وتغطي هذا الجانب، كما أتمنى المشاركة في مشاريع فنية عالمية وتشريف بلدي فنيًا وثقافيًا.