حرفة صناعة السِّبح ..

خرزات في خيط التسبيح .

في كل خرزة من خرزات السِّبحة تنبض ذاكرة حضارية، وتنساب الحكاية من خيط التسبيح لترتبط بالدين والهوية والذوق والتراث، فصناعة السِّبح ليست مجرد حرفة يدوية تنحت في الأحجار، بل هي فعل ثقافي ضارب في عمق التاريخ، يعكس التديّن والتجمّل والتأمل معاً. وبين أنامل الحرفي ومزاج الهاوي، تنسج السِّبحة رحلتها من الطبيعة إلى السوق، ومن الأيدي البسيطة إلى المجموعات النادرة، محتفظة بمكانتها في المجتمعات العربية والإسلامية، لا بوصفها أداة تسبيح فقط، بل رمزًا لجمالية التفاصيل التي تختزل ماضيًا روحيًا وحرفة متجددة تواكب الحاضر. جذور تاريخية نشأت حرفة صناعة السِّبح منذ آلاف السنين، ورافقت الإنسان في مختلف عقائده وأطواره، من البوذية إلى المسيحية ثم إلى الإسلام، محتفظة بوظيفتها الرمزية والروحية. فالسِّبحة لم تكن مجرد أداة للذكر، بل رفيقة التأمل والسكينة، ومعبّرًا عن الانضباط والصفاء الذهني. وقد ورد في «تاج العروس» للزبيدي أن لفظ «السِّبحة» لم يكن معروفًا في لغة العرب في الجاهلية، وإنما دخلت إلى الاستخدام في العهد الإسلامي المبكر لتعين المسلم على ذكر الله، وتقول بعض المصادر التاريخية إن أصل السِّبح يعود إلى الهند والصين، حيث استخدم الرهبان حبات الخرز لعدّ التلاوات والتأملات، قبل أن تنتقل إلى بلاد الشام ومصر ثم الحجاز. ومع دخول الإسلام، احتضنت السِّبحة تقاليد الذكر والتسبيح، وتحوّلت من أداة طقسية إلى إرث ديني واجتماعي له حضوره في كل بيت ومسجد وسوق. لا يمكن الحديث عن صناعة السِّبح دون التوقف مطولًا عند مكة المكرمة، المدينة التي احتضنت منذ قرون نخبة من أمهر صانعي السبح في العالم الإسلامي. فمع قدوم الحجاج من كل بقاع الأرض، أصبحت مكة سوقًا متجددة لعرض أجمل المسابح وأكثرها ندرة، وتحولت بعض أسرها إلى حاضنات لهذه الحرفة الأصيلة، تورثها جيلاً بعد جيل. وصقلوها بالذوق والفن الحجازي المميز. وقد ارتبطت هذه الحرفة ارتباطًا وثيقًا بخدمة الحاج والمعتمر، حيث تُقدَّم المسبحة بوصفها هدية روحية لا يخلو منها بيت بعد موسم الحج، تحمل في خرزاتها عبق المكان، وذكرى الزمان، وتظل رمزًا للتقوى والبركة. أنامل تصوغ الفن تمر صناعة السِّبح بعدة مراحل دقيقة، تبدأ باختيار المادة الخام، وهي خطوة تتطلب خبرة طويلة في التمييز بين الأحجار، وفهم خصائص كل خامة، سواء كانت طبيعية كالكهرمان والعقيق واليسر، أو صناعية كالفاتوران والبكالايت. وبعد اختيار الخام المناسب، تبدأ مرحلة الخراطة، وهي تحويل القطعة الصلبة إلى خرزات متقنة متناسقة. ويستخدم الحرفيون أدوات تقليدية مثل المثقاب اليدوي والمخرطة والمسن والقوس، وبعضهم لا يزال يستخدم أدوات يدوية قديمة تعود لعقود خلت، حفاظًا على أصالة الصناعة. ثم تأتي مرحلة التثقيل والثقب والتسبيب، يليها الصنفرة والتلميع لتنعيم السطح وإبراز لون الحجر، ثم تنتهي المرحلة بربط الخرز بخيط قوي وعمل «الكركوشة» التي تعد اللمسة الجمالية الأخيرة. لا تقتصر جماليات السِّبح على الخامة فحسب، بل تشمل تنوع القصّات والأشكال التي تعكس ذوق الحرفي وفلسفة التصميم. ومن أشهر أشكال الخرز: الدائري والزيتوني والزوردي والبرميلي والصنوبري، ولكل شكل محبوه ودلالاته، كما أن رأس المسبحة (المئذنة أو الشاهد) يأتي بأشكال فنية متنوعة مثل منارة مسجد أو فانوس أو شجرة سرو. ويولي الحرفيون أهمية كبيرة لتوازن التصميم وتوزيع الفواصل، بحيث لا تكون المسبحة مجرد خرزات مكدسة، بل قطعة فنية متناغمة. ويبلغ عدد الحبات في أغلب المسابح 33 أو 99 حبة، وهو ما يرتبط بعدد التسبيحات أو بأسماء الله الحسنى. وتعتمد قيمة المسبحة بشكل أساسي على نوع المادة الخام، حيث يأتي الكهرمان في مقدمة المواد الثمينة، خاصة إذا كان من نوع «الكهرمان المحشر» الذي يحتوي على حشرات صغيرة محنطة داخل الحجر منذ آلاف السنين. ويليه العقيق والفيروز والعاج واليسر، إضافة إلى أنواع نادرة من الأخشاب مثل الكوك وخشب الأبنوس. كما يتم استخدام المرجان الأسود المعروف باليسر، والذي يُستخرج من أعماق البحر الأحمر، وله قيمة روحية وجمالية عالية. أما المواد الصناعية الأكثر رواجًا فهي الفاتوران، وهو نوع من البلاستيك الثقيل الذي يمنح المسبحة لونًا دافئًا ولمعانًا خاصًا، وكان يُصنع قديمًا في ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، وهو اليوم من الخامات المفضلة لدى الجامعين والهوّاة. قطع فنية واستثمار لم تعد السِّبحة مقتصرة على الاستخدام الديني أو التقليدي، بل أصبحت قطعة فنية تُقتنى للاستثمار، خاصة إذا كانت مصنوعة من خامات نادرة أو مصممة من قبل حرفي مشهور. بعض السبح تُعرض بأسعار كبيرة وتُصنف ضمن القطع النادرة التي تتضاعف قيمتها مع مرور الوقت. ويهوى كثير من السعوديين، وخاصة من فئة الشباب، جمع المسابح المميزة، والمشاركة في مزادات تُعرض فيها السبح كأنها لوحات فنية. وتستخدم بعض الأنواع في المناسبات الرسمية، أو كهدايا فاخرة تعكس ذوقًا خاصًا، وتُهدى إلى كبار الشخصيات. وقد برزت هذه الحرفة في مهرجانات وفعاليات عديدة؛ مثل «الجنادرية» و»بيت حائل» وفعاليات «جدة التاريخية» وغيرها، كمنصات حيوية لإحياء حرفة السبح وترويجها، فهذه الفعاليات تجمع بين الحرفيين والزوّار من كل الفئات، وتتيح فرصة للزوار لمشاهدة الحرفة عن قرب، وشراء المسابح مباشرة من صانعيها، كما تقدم بعض الورش دورات في تعليم صناعة السبح، مثل ورش «نفس» في أبها وورش الحرفيين في المدينة المنورة، وهو ما يعزز نقل الحرفة إلى الأجيال الجديدة. كما تسعى وزارة الثقافة وهيئة التراث في المملكة إلى دعم هذه الصناعات التراثية ضمن رؤية 2030 التي تحتفي بهوية المملكة. إلى جانب ذلك، تحظى أسواق مكة المكرمة بشهرة واسعة في تجارة السبح، وتعد من أكثر الأسواق نشاطًا خلال موسمي الحج والعمرة، إذ تستحوذ هذه المواسم على نحو 85% من إجمالي مبيعات السبح في المملكة. وفقًا لبيانات وزارة الصناعة والثروة المعدنية المنشورة في عام 2023؛ يُقدر حجم سوق السبح في المملكة ما يقارب 107 ملايين ريال سنويًا، مع وجود 27 مصنعًا، فيما تنتشر المحال المتخصصة في بيع السبح في الأسواق الشعبية والأسواق الحديثة، من الرياض إلى المدينة المنورة، ومن جدة إلى الدمام، كما تباع السبح عبر الإنترنت في منصات متخصصة تتيح خيارات من مئات الأنواع، وتعرض صورًا دقيقة للمقارنة بين الخامات والتصاميم. السبحة في الذاكرة احتفظت السِّبحة بمكانة خاصة في وجدان المجتمع، حيث رافقت الجد في خلوته، والأب في مجلسه، والشاب في رحلاته. بعض الأسر تحتفظ بمسابح قديمة توارثتها عبر الأجيال، وبعضها يعيد إصلاح خرزات متهالكة للحفاظ على رمزها العاطفي. ولم تُقصَ السِّبحة من حياة الناس رغم تطور الوسائل التكنولوجية، بل ازدادت قيمتها مع الوقت، بوصفها رمزًا للتراث الحي، ومعلمًا من معالم الذوق، وقطعة فنية تتجاوز حدود الاستعمال إلى مجالات التزيّن والتفرد والاقتناء، لتظل حرفة صناعة السِّبح شاهدًا حيًا على قدرة الحرفة أن تتجاوز الزمن، وأن تظل متجذرة في الذاكرة والواقع مهما تغيرت الوسائل والأذواق. فالمسبحة ليست مجرد خرزات في خيط، بل هي اختزال دقيق لمسار حضاري طويل، يجمع بين الدين والجمال، بين الأصالة والتجديد، وبين المهارة اليدوية والحس الفني الرفيع. وفي المملكة، تكتسب هذه الحرفة بُعدًا وطنيًا وتراثيًا خاصًا، بما تحمله من دلالات على الصبر والذكر والهوية الثقافية. ولعلّ دعم الحرفيين وتوفير منصات ترويجية دائمة، وإدماج السبح ضمن الصناعات الثقافية الوطنية، هو ما سيضمن بقاء هذه الخرزات الصغيرة ناطقة بلسان التاريخ، ومنسوجة بخيط الحب والانتماء. إنها خرزات لا تنفد.. تدور في كفّ الذاكر، وتُهدى بكل فخر، وتُصاغ بأنامل نذرت نفسها لصيانة الذاكرة وحفظها في خيط.