في فيلم نورة للمخرج توفيق الزايدي..

تفكيك الصمت وبناء اللحظات الشاعرية.

في فيلم نورة، تبدأ الحكاية بتموجات هادئة في وجوه ساكني قرية معزولة، تُقاس تغيراتها بهمهمات الداخل. يصنع هذا العمل المخرج توفيق الزايدي في أولى تجاربه الروائية الطويلة، عملاً يُشبه القصيدة، يتقدم بخطى هادئة، وينسج بصريًا حكاية صامتة بين فنان متواري خلف طباشير التعليم، وفتاة تحاول أن تُبقي الحياة تنبض رغم سكون الصحراء. نادر (يعقوب الفرحان) الفنان الذي تقوده الحياة ليكون معلمًا في قرية نائية، لا يتحدث كثيرًا، ولا يريد أن يُفسد الصمت الذي يملأ الفراغ. أما نورة (ماريا بحراوي)، فهي ابنة المكان، فتاة صغيرة تحمل في عينيها أسئلة كبيرة، تعيش مع شقيقها الأصغر بعد رحيل والديها، وتحاول أن تظل قائمة على قدميها وسط عزلة لا ترحم. وبصمتٍ شبه مطلق، تتشكل بينهما علاقة يعلن عنها بالصمت، وبالنظرات، وبالورقة الصغيرة التي تكتبها نورة لتطلب من نادر أن يرسمها. هذا المشهد، يبدأ بالورقة ويصل إلى بقالة القرية الصغيرة، مشهد من أكثر لحظات الفيلم دهشةً ومواربة. يدخل نادر إلى البقالة، يختبئ جزئيًا خلف الأرفف، يراقب نورة التي تتحادث مع العامل الشرق أسيوي. الكاميرا لا تُقدّم مواجهة مباشرة، بل تتحرك بين الزوايا، كما لو أنها تحترم الخجل الذي يحكم هذا اللقاء. لا حديث بين نادر ونورة، لكن توتر المشهد يكفي ليفضح ما تحاول الشخصيات اخفاءه. تتجلى هنا براعة الزايدي في بناء لحظات شعورية كثيفة من خلال الإخراج والاختباء البصري، حيث لا يتم الإفصاح عن شيء بشكل مباشر. أحد أبرز عناصر تميّز الفيلم هو التصوير السينمائي، الذي حوّل المكان (العلا) إلى شخصية ثالثة، لا يقل حضورًا عن نادر ونورة. المشاهد البانورامية تُظهر القسوة والجمال معًا، بينما اللقطات القريبة تعكس الداخل الهشّ للشخصيات. في مشهد تسير فيه نورة وحدها في الصحراء، تبدو كنقطة في بحر من الرمل، كأنها تائهة في مصيرها. لا يفتعل الزايدي العزلة، إنما يدعها تنمو طبيعيًا من تضاريس المكان وانكسارات الروح. وقد أظهر قدرة فريدة على استخدام الزمن البصري، دون أن يقع في الرتابة. اللقطات الطويلة تسمح للمشاهد بالتماهي مع أجواء الفيلم والتقاط الإشارات النفسية، خاصةً مع توظيف ذكي للإضاءة. في أحد المشاهد، يظهر الفنان عبدالله السدحان بدور مختلف عن أدواره الكوميدية المعتادة، مجسدًا شخصية (شيخ القرية) وهي ذات حضور خافت لكن مؤثر، تتقاطع مع خط نادر (المعلم في القرية) بشكل غير مباشر. وهنا تبدو الشخصيات كأنها تعيش في عوالم موازية، تتجاور دون أن تتقاطع بشكل كامل في سبيل تحقيق الرؤية المبتغاة، كما لو أن الفيلم يُصرّ على إبقاء الجميع في دائرة انتظار لا تنتهي. الجميل في الأمر أن فيلم نورة نال تنويه خاص من لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي 2024 (الدورة 77)، وهو تكريم لا يُمنح جزافًا. ذلك أن الزايدي لا يروي حكاية تقليدية، بل يبني عملاً تأمليًا عن الطفولة، والرغبة، والصمت، والحنين، دون أن يقع في الميلودراما أو الابتزاز العاطفي. وقبل ذلك حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم سعودي من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (الدورة الثالثة) 2023. المشهد الختامي للفيلم، ثمّة من يراه نقطة تتويج لعلاقة ظلت مكبوتة، هل التقت نورة بنادر فعلًا؟ لا يقدّم الفيلم إجابة، لكنه يترك الباب مواربًا للتأويل، متماشيًا مع روحه العامة التي تفضّل الإيحاء على التصريح. نورة، فيلم عن اللحظات التي لا تُقال، عن المشاعر التي لا تُشرح، عن الأسى الذي لا يُصرّح به، ولكنك تراه في ارتجاف الضوء على وجه فتاة صغيرة، وفي نظرة رجل فقد شغفه، وفي مسافة لا تُقطع بين اثنين يملكان ما يكفي من الصمت ليظل كل شيء معلّقًا، كصورة نورة على الحائط. من خلال هذه العوامل الفنية، يقدم «نورة» رؤية فنية متميزة تعكس التحولات الثقافية في المجتمع السعودي، وتتناول قضايا إنسانية عميقة بأسلوب مؤثر وصادق. يُعتبر الفيلم إضافة نوعية إلى السينما السعودية، حيث يظهر بوضوح كيف يمكن للفن أن يعبر عن تجارب إنسانية معقدة بطريقة تمس القلوب.