«الشويحطية» من جوف البلاد ..

بداية الحضارة والفكر والامتداد.

هنا على هذا التراب الفسيح ، و من هذا الامتداد الفصيح ، بدأ الإنسان الأول قصيدتهِ البِكر فابتدأت الحكايا تمتد و تشتد ، كان للمطرِ المُنسكبِ من فمِ الغيماتِ  في النهارات القائضة أشدَّ الأثرِ في رسمِ ملامحِ الإنسانِ هنا، إنهُ ينمو مع “الخزامى” و “الشيحِ” و زهر “الديدحان” كقصةِ حُب عاصفة مرّت في صحراء الشمال ، نقَشَ ملامحها بدويٌّ شهم ثم مضى في صحرائه العظيمة. هنا ينمو الإنسانُ جميلاً و جليلا ، من بين التراب والصخور ، ينمو زهر أقحوان ، ثم يكبرُ و يتعاظم كقلاع “زعبل و مارد” الضخمة و آثار “الرجاجيل” الصلبة ، كـ “نقش الجملِ” الدقيق والأنيق ، الذي نقشه إنسان هذه الأرض بأناملَ من ضوءٍ وإتقان ، ليقول : من هُنا ابتدأ الإنسان المُفكّر الفنّان. من يزور آثار الجوف كالشويحطية أو حصن زعبل أو قلعة مارد ، سيقرأ فكراً إنسانيّاً و حضاريّاً متطوّراً جداً ، ففيها تتجلّى براعةُ الذهنِ البشريّ في الابتكارِ والتكيّف والتخطيط.  الإنسانُ الأولُ هنا قبل آلاف السنين صنع من اللا شيء أشياءً عظيمة ، لقد صنع من الحجارة أوانٍ للطعام والسقاء ، و بنى بيته و حصنه ، فحمى نفسه و بلدته ، وتطاول في الإعمار و الازدهار. و “قرية الشويحطية” في منطقة الجوف تُعدُّ أقدم موقع أثري استوطنهُ الإنسانُ في العالم كما يقول بعض الباحثين، واحتوى الموقع على أدواتٍ حجريةٍ اُستخدمت لتوفير الماء والطعامِ و سُبل العيش و يعودُ تاريخهُ إلى مليون و ربع المليون سنة، وهي من الآثارِ التي تعود إلى العصر الحجري. و “حصن زعبل” الذي يعود تاريخهُ كما يقولُ بعض الباحثين إلى الفترة النبطية المؤرّخة من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي، هذا الحصن العتيد الذي بُني على جبل صخريٍّ شاهق، و في أسفلهِ بئر “سيسرا” هذه البئر المنحوتةُ في الصخرِ الصلب، وتحيطُ بهما البساتين الخضراء بالجوار. يُحيلُنا هذا إلى جسارة الفكر الإنساني والعمراني الذي تجاوز تأمين مقوّمات الحياة الأساسية إلى حماية الإنسانِ و ضمان الأمان في وقتٍ زمنيٍّ مبكرٍ جداً.  و تلك قلعةُ “مارد” التي قالت عنها الملكة الزباء مقولتها الشهيرة “تمرّد ماردٌ و عزّ الأبلق “ حين حاولت استلاب قلعة مارد في منطقة الجوف و حصن الأبلق في تيماء لكنها لم تستطع. من يزور “المارد” يتأمل فرادة الإعجاز الإنساني فلا يكلُّ و لا يمل ، ففي كل مرةٍ أزور هذه القلعة المهيبة تأسرني التفاصيل الدقيقة والذكية التي عُني بها مخططو و صانعو هذه القلعة الحربية العصيّة. القلعة ضخمة وشاهقة تُرغمنا على التفكّر في الطريقة التي استطاع بها الإنسان آنذاك للوصول إلى هذا العلو في البناء، وهنا يتجلى الاندهاش الأول ، إن هذه الأسوار الممتدة بعيداً إلى السماء جعلتها آمنة من الاستلاب والاقتحام. حتى إذا ولجنا إلى الفِناءِ صافحتنا المساحات الشاسعة والمتدرّجة في الارتفاع والانخفاض، والغرفُ والمرافقُ متعددة الأشكال و الأحوال، كأنها تقول: أنا الاتساع والإبداع ، فلا يسأم من احتمى بي الشهور الطِوال ، فهُنا الشمسُ والفضاءُ و الجمال ! و في قلب القلعة بئرٌ للسقاء ، كأنها تقول : هنا الماءُ والهناء ، و لا سبيل لمن حاصرني و لو وقف ببابي ألف عامٍ بلا انتهاء ! ثمة أبواب مُخاتلة و أقبية و مخارج ، لتأمين المكان إن طال في حصارِها العدوُ و امتدَّ الزمان. إنها قلعةٌ أبيّةٌ لها ملامح و تفاصيل عبقرية ، أُحِبُّ زيارتها و التفكّر في براعة تفاصيلها ولمساتِها. نحن في الجوف لسنا أمام تاريخٍ عريق فحسب بل فكرٍ إنسانيٍّ عميق و دقيق ، فهذا التراث الذي يمتد بامتداد الجوف تقفُ خلفهُ ذهنية متقدّمة، أسّست لبناءٍ ذكيٍّ أبديّ بقي آلاف السنين شامخاً راسخا. بُنيّ بأناملَ شديدة الإبداع و قلوبٍ غزيرةِ التدفقِ و إصرارٍ عظيم التألّق. هذا التراث الفريدُ بحاجةٍ إلى قراءةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ تتجاوز القراءات التاريخية ، إننا بحاجة لقراءة الماوراء ، ما وراء الحدث ، ما وراء البناء ، ما وراء هذا البهاء ، لإثراء الفكرِ والتحليق بعيداً في سماء الإبداع البعيدة. هُنا إنسانٌ عظيم و فكرٌ مستديم ، هنا ابتدأ الإنسان الأول في هذه الأرض حكايته. من “الشويحطية” كانت بداية العالم ، من شمال الوطن ابتدأ العقل والعمل و الأمل. لذا أتى مشروع (روح الجوف) الذي أطلقه سمو أمير منطقة الجوف الأمير فيصل بن نواف بن عبدالعزيز مؤخراً إلا استكمالاً للمرحلة التنموية الاستثنائية التي تعيشها منطقة الجوف في ظل الرؤية المضيئة، فسموّه يؤكد في كل مرة على أن التراث هو هوية الإنسان وملامحه الثقافية وجذوره المتينة و وقوده المتوهج نحو التحليق في فضاءات و ثقافاتٍ يستزيد منها و يزيدها فكراً و حضارةً و نماء. هذا وطن المفكرين والعظماء ، و بلد البدايات المُشرقة والتطلعات المُحققة ، بلدُ الحضارةِ والجسارةِ والإنارة، بلدٌ متجذرٌ في عمقِ التاريخ المأهول، و متطورٌ إلى أبعد من المعقول. *شاعرة وكاتبة منطقة الجوف