قراءة في تجربة الشاعر ناجي حرابة ..

سفر الذات من عتمة الستر إلى نور الصلاة .

هل تُكتب القصائد لإيقاظ شيءٍ غافٍ في أعماق الذات ؟ هل اللغة سلّم خفي تهبط بهِ الروح إلى أغوارِهــا ثم تصعد به إلى المطلق ؟ في بيتٍ شفيف لجاسم الصحيح يسلط مصابيحه الكاشفة على الحقيقة بلسان العارف قائلاً : وعلّمني السقوطُ ببئرِ نفسي بأنّ الماءَ في الأعماقِ أحلى بهذه الإضاءة يُنير السقوط دربَ الواصلين ، ويصبح الشعر همساً للذات وهي تمتحن صدقها في العتمة ..  والشاعر - حين يبلغ مقامه - هو مثل السالك تماماً لا يكتب ليقال له : أجدت، وإنما ليهمس في سره: وجدت .. في هذا السياق نقارب شعر ناجي حرابة كرحلةٍ باطنية ، ونقرأ تشعباتها كما تقرأ المناجاة في السحَر ، ونتتبع خُطى القصيدة تماماً كالمريدين ، إذ لكلِ  بيتٍ مقام ولكل مقام منزلة يُرفع عنها الحجاب . في هذه الرحلة سنبدأ من ستر التكوين ، وسنتقلب بين المرآة والاغتسال والانصهار حتى نبلغ ذروة الصلاة حيث يغدو الحرف سجدة والقصيدة قبساً من نور ... وهناك، على طور المجاز، يوافينا ناجي وهو ينادي محبوبته الأزلية : بعد عينيكِ لهفتي بوصلَتني  باتجاهِ الأعماقِ وسطَ بحوري  هل أنتم على أهبة التجلّي ؟ إن الشاعر سيأخذنا في رحلة عرفانية الملامح .. عبر قصيدةٍ تطهّرت حتى شفّت عن النور . بوصلة القلب لهفته والأعماق وجهته والكلمة وسيلته .. *** ( الستر : منزلــة مَنْ أذِنَ له في المثول ) لليلِ وَحدتُهُ التي احْتشدتْ بها كلُّ العصورِ الليل هنا منزلة للتهيؤ ، يتربى فيه السكون حتى يصبحَ إشراقاً .. إذاً الليل هو زمن ( مثول ) الذات أمام عزلةٍ مأهولة بالصمت والإصغاء ، ليس ثمةَ صوت غير تلك المناجاة الصادقة :  يا ليلُ إنك ما تزالُ تُبيحُ للعشّاقِ والسّراقِ سِترَك فالستر هو الرحم الرمزي الذي يبدأ فيه التخلق الداخلي ، والظلام ليس سوى سكينة تسبق الانبثاق حيث تنضج البصيرة في مختبرِها السري إلى أن يحين الوقت المناسب لتقول بهمس : يا دُجىً، قلْ لنا كيف نعرفُ أنّ السَّنا أشرقا؟ بهذا السؤال الواعي نعرف أن الشاعر استعدّ للمنزلة الأعلى ، واقتربت لحظة الانفراج لتُفتح أول بوابات المعنى : يا ليلْ بُحْ وأْذَنْ لِسرِّكَ بالعُبورِ إنه عبور إلى منزلة الانكشاف بعد أن تسلّح الشاعر بالبصيرة ، فمن لا يذرف قلبه في العتمة لا يسمع نداء القصيدة حين تهبط من عليائها . هنا تتكوّنُ القصيدة لا كفكرة، بل كهجرة  نحو الذات وهي تخلع أقنعتها واحدة تلو الأخرى . *** ( المرآة : منزلة من أُذِن له بالنزول ) الحنينُ رسولُ القِدمْ الحنينُ ابتكارُ المضارعِ يسعى لتعلوَ أعناقُهُ فوقَ سقفِ العَدمْ عندما يخرج الشاعر من الستر لا يرى النور مباشرة بل يرى انعكاسه في مرآة ذاته .. في هذه المرحلة تتحول المرآة من سطح عاكس إلى موضع كشف استعداداً  لـ ( نزول ) القصيدة عبر حنينٍ  إلى قديم الذات حيث تتواجه مع ظلّها وصورتها وعمقها في آن . فالحنين لا يعود نوستالجيا سطحية بل يصبح سلوكاً وجودياً يستدعي العهد الأول لصفاء القلب ، لذلك فإن الشاعر يخاطب هذا القلب بقوله : أورِ يا قلبُ نارَك من حطبِ الذكرياتِ لأن الذكريات وقود لإشعال التبصر الروحي ، ولكي يتعاطى الشاعر معها لابدّ من قصيدةٍ متوهجة بالانتظار : قصيدتي أنحلها الشوقُ وأدمى قلبَها الانتظار حيث أن الانتظار هنا يشبه ( النزول ) في مدارج النفس ، والمكوث فيها ضرب من التصفية الداخلية حتى تتجلى القصيدة كانعكاسٍ لتذكّر الوجه الفطري - ذلك الحضور النقي قبل أن تكدره التجارب ، وقبل أن يشتته الضجيج -  وهذا هو لب الدعاء الذي يقول  ( بك عرفتك وأنت دللتني عليك ) فكما أن العارف لا يصل إلى معرفة الحق إلا عبر إشراقه عليه ( السفر من الحق إلى الحق ) ، كذلك الشاعر لا يبلغ صورة القصيدة إلا حين تُلقي هي عليه قميص جوهرها الأول فيتذكر من خلالهـا ذاته وربه ومبدأه .. إن القصيدة نفسها تصبح مرآةً ينظر بها الشاعر إلى وجهه الأول، فتتجلّى متأرجحةً بين ( من كنت ) و ( ما أرجو أن أكون ) أريدُ أن أكون مروِّضَ الجمالِ  في شراسةِ القصيدةِ الحرون  القصيدة هنا مرآة متمرّدة، لا تستجيب إلا لمن قدّس التعب، ووقف على ناصية الحلم ابتغاءَ الوصول *** ( الاغتسال : منزلة من أُذنَ له في الوصول ) فَهَا (كوثرُ) الشعرِ بلِّلْ شِفاهَ القصيدِ بماءِ القنوتْ ها هنا يبلغ الشاعر مقام التهيّؤ للوصال.. مقام من تهيأ وتعبأ واستعدّ فكل حرفٍ قبل هذا الاغتسال كان تمرينًا على الطُهر، وكل موسيقى كانت رشًّا أوليًا بالماء. إن الماء هنا ليس فقط رمز الطهارة، بل هو أيضًا إشارة لشفافيةٍ تتجاوز الحرف نحو النور، تمامًا كما أن النار ليست فقط ألمًا، بل نضجًا: أَبيْ نَضَجَ القَلْبُ  فَوْقَ عَرِيْشِ اللَّهَبْ بهذا التشكل يتحوّل الشعر من زخرفٍ إلى ذكر، ومن تراكيب إلى ماءٍ ونار ومن بهوٍ إلى بهاء .. القصيدة وضوء داخلي. لا تُكتب لتُلقى، بل لتُطهِّر مَن يكتب، وتُهيّئه للوصال : أنا مذ صوتكِ النهاوندِ صلّى فوق أذني غداةَ همسٍ طهور خلتُ أن الغناء يهطلُ ضوءًا فنوتْ أضلعي اغتسالًا بنور في هذه المنزلة الاغتسال بالنور عملية تهيؤ للقبول . *** ( الانصهار : منزلة من أذنَ له في القبول  ) أنا أم أنا قلتُ: بل أنتنا في هذا المقام، تتلاشى الثنائية: لا ذاتٌ تكتب، ولا آخــــرٌ يُكتــب لــه، بل ( هو) وحده الناطق في الذوات جميعًا ... والمسافر في الذوات جميعاً .. إن الانصهار هنا وجودي . وقلبُكَ ثلجٌ، فأنّى لك الآنَ أنْ تَصهَرَ الأحرفا؟ والمجاز لم يعد تزيينًا بل اشتعالًا. والكلمات لم تعُد تُنشأ، بل تنبعث من الفناء : سأفنى فكم ذا أزيدُ احتراقًا ونبعي نفادُ في هذه المنزلة ، لا يسطّر الشاعر، بل يشتعل.وتصبح أمنيته القصوى: فمنايَ أنْ أهبَ الحياةَ شميعةً لا تنطفئْ إنه الذوبان الكامل و(القبول)بكل الوجود … الذي يُؤهّله للدخول. *** ( الصلاة : منزلة من أذن له في الدخول ) سَمعْتُ بِأَنَّ جَمَالَكَ سِرُّ الهَلاكْ إِلهِيْ تَجَلَّ ولَوْ مَرَّةً  أَشْتَهِيْ أَنْ أَرَاكْ ها نحن نبلغ الغاية: الصلاة .. سندخل مع ناجي للإقامة الدائمة في الحضرة. الصلاة هنا هي مقام الوَصل، مقام من رأى فأنشد، ومن أنشد فسجد. وحدي أُصلّي للجمالِ وكان لي التسبيحُ سامرْ الشعر إذًا تحوَّل إلى تسبيح، والكلمة إلى بخور، والقصيدة إلى محراب. لم تعُد الأوتار تُغنّي، بل تذوب: لا ينثني عن ذكرها قيثاري حتى تذوبَ بلحنِها أوتاري فيعود لليل من جديد في دورة عرفانية متجددة - مثل دورة الماء في الطبيعة - ليقول له : أطفئ وُجومَك وامْنَحِ الأفقَ السلامَ  * تجربة ناجي حرابة: تجربة تحوّل. من الظاهر إلى الجوهر، من الستر إلى النور، من الحرف إلى النبع، من (أنا) إلى (هو) ثم الدخول في الصلاة ... فهو سالكٌ يُطهّر لغته قبل أن يُقدّمها قربانًا. يكتب كما يُصلي، ويهمس كما يُذوّب، ويرتّل كما يسكن ... فهـو ( الناجي) بالنجوى حتى غدا شاعراً : ولتسألوا عني ملاكَ الشعرِ علامَ السّرائر فلقد خُلقتُ على يديْه وصرتُ من نجواهُ شاعر  وبعد كل هذا .. ما الذي تعلّمناه من هذه الرحلة مع الشاعر؟  وما الذي تركه لنا على سجادة التأمل؟