الشعوب الأصلية.. ضمير الأرض المفجوع.

يستعرض المفكر الأمريكي – فلسطيني الأصل “إدوارد سعيد 1935م – 2003م” في كتابه التحليلي “الثقافة والإمبريالية” كيف أن الاستعمار لم يكتفِ بسرقة أراضي العالم الجديد فحسب، بل صُوَّر السكان الأصليين وكأنهم قطيعًا من البرابرة. وهنا يقفز تساؤلًا مفاهيميًا: من هم البرابرة حقًا؟ هل هم أولئك السكان الذين عاشوا في انسجام تامٍ مع أرضهم عبر آلاف السنين، أم الذين دَمَّرُوا الحرثَ والنسلَ بعنجهية وجنون في أقل من قرنين؟ ويرى عالم الاجتماع الفرنسي “كلود ليفي ستراوس 1908م – 2009م” بأن “الإنسانية الحقيقية تبدأ حين نُدرك أن الآخر المختلف ليس أقل إنسانية منا، بل هو يحمل نسخة أخرى من معنى الإنسان”. في أحضان الغابات النائية التي تُمِد الأرضَ بإكسير الحياة، وعلى قمم الجبال التي تنبئ الدهر بأسرارها، تُقِيم شعوبٌ ما تزال تسكن قلب الذاكرة الأولى للبشرية. إنهم الشعوب الأصلية، حراس الروح الأولى لهذا الكوكب، أو ضمير الأرض كما يسميهم بعض علماء الإيكولوجيا الاجتماعية “هم أولئك الذين سبقوا الاستعمار، وعاشوا متصالحين مع أراضيهم، قبل أن تُرسَم الحدود بين الدول وتُسَن القوانين الحديثة”. وقد عَرَّفَتْهُم “الأمم المتحدة” بـ “أنهم الجماعات العرقية التي تحتفظ بروابط ثقافية واجتماعية واقتصادية وروحية مميزة، وكانت تقطن أراضي معينة قبل الاستيطان أو الاستعمار أو قيام الدول الحديثة” ففي الأميركتين شن المستوطنون الأوروبيون حملات إبادة جماعية ضد السكان الأصليين في أمريكا الجنوبية، بين القرنين (16و18)، وبين القرنين (17و19) في أمريكا الشمالية. أما في “أستراليا” فقد شن المستوطنون البريطانيون حربًا ضد السكان الأصليين عُرفت بـ “الحرب السوداء” خلال القرن التاسع عشر (1825م-1832م)، وكانت هذه الحرب القذرة تهدف إلى إجلاء الشعوب الأصلية عن أراضيهم، وطمس هويتهم الأصلية. وفي القرن الواحد العشرين يشهد الشعب الفلسطيني الأصلي، إبادة جماعية تقشعر منها الأبدان، ويشيب لها الولدان. ويُقدَّر عدد أفراد الشعوب الأصلية في العصر الراهن بين (370-470) مليون نسمة، موزعين على أكثر من تسعين (90) دولة، يمثلون خمسة عشر بالمائة (15%) من الفقراء في العالم، وهذا الرقم الصارخ يفضح حجم المأساة، وفظاعة التهميش الذي تعرضوا له عبر التاريخ الحديث. وتشير تقارير أممية أخرى إلى أن متوسط أعمار أفراد الشعوب الأصلية أقل بـعشرين (20) عامًا من الشعوب المتحضرة. لا يعيش كثير من هذه الشعوب في عزلة جغرافية فقط، بل يقبعون في قطيعة اجتماعية، واقتصادية، وثقافية مُتَكَهِّفَة. ونتيجة لكل هذا وذاك، تعاني هذه الشعوب من ضعف البنى التحتية خاصة الصحية، وتفتقر للقدرة على مقاومة الجوائح، حيث تُعَد الأمراضُ بمثابة “غزو بيولوجي” قاتل لها. فلم يكن القتل بالرصاص، أو بالسيوف وحده الذي أدى لانخفاض مريع في أعداد الشعوب الأصلية، بل كانت يد الاستيطان المشؤوم ملوثة بحرب بيولوجية غير معلنة، حيث انتشرت الأوبئة والأمراض التي لم تعرفها تلك الشعوب الآمنة والمطمئنة من قبل، وأدت إلى انقراض جماعي لصالح المستعمرين الجدد. ليس من المبالغة القول إن الشعوب الأصلية هم حُماة الطبيعة الأوائل. حيث يرى “الإيكولوجيون” أن الغابات الأصلية التي يعيش فيها السكان الأصليون هي أكثر المناطق البيئية تماسكًا” لماذا؟ لأنهم لا يتعاملون مع الطبيعة كمطمع اقتصادي، بل ككائن حي له روح وضمير. والعبث بالنظام البيئي ليس مجرد تخريب للبيئة، بل تفكك في نسيجهم الاجتماعي. في عصر الذكاء الاصطناعي، ظهرت مهددات جديدة للشعوب الأصلية. فنماذج الذكاء الاصطناعي تُبنى في الغالب دون إشراك مجتمعاتهم، مما يؤدي إلى تشويه صورتهم، وتكريس الصور الشبحية عنهم. وفي هذا السياق، يشدد علماء الاجتماع، وخبراء التنمية البشرية على أهمية إدماج هذه الشعوب في صميم التكنولوجيا، والاعتراف بهم كمشاركين فاعلين في بناء الحضارة. أمام هذا التاريخ الطويل من الظلم، بدأت “الأمم المتحدة” منذ عقدين – أو أكثر بقليل - بتكثيف جهودها لحماية حقوق الشعوب الأصلية. حيث أنشأت “منتدى الأمم المتحدة الدائم لقضايا الشعوب الأصلية” وأصدرت إعلانًا يُقر بحقهم في عدم الإجلاء القسري من مواطنهم، وفي صون لغاتهم الأصلية، والمحافظة على هوياتهم الثقافية من الفَنَاء. وقد خُصِّصَ اليوم التاسع (9) من شهر أغسطس من كل عام يومًا عالميًا للاحتفاء بهم والاعتراف بأن لهم حق في العيش الكريم، مثلهم مثل غيرهم من بني البشر. كما أُعْلِنَ عن عقد كامل (2022م –2032م) مخصص لحماية لغات الشعوب الأصلية من الاندثار. لم تَعُد الشعوب الأصلية مجرد موضوع للبحث الأكاديمي، أو للكتابة الصحفية، أو الاحتفاء الكرنفالي، بل باتت قضية إنسانية وسياسية وبيئية من الدرجة الأولى. وإذا كانت “الأمم المتحدة” قد اعترفت بهم كجزءٍ لا يتجزأ من المجتمع الإنساني، فإن إنقاذ الشعوب الأصلية ليس مجرد إنصافٍ لفئة منكوبة، بل هو نُصرةٌ للضمير الإنساني، وإعادة ترابطه مع الأرض والحياة بصيغة متوازنة. حقًا إن الشعوب الأصلية هي نبض الأرض المنسي، وضميرُها المفجوع.