
كتاب قد يمتعك ولكنه بالتأكيد سيجعلك تتنهد بين كل فقرة وأخرى، تنهدات الحزن والخيبة، الكتاب أشبه ما يكون بمرثية طويلة لبيروت ولإنسان بيروت، حياة رجل تقلب به الزمان، من سائق سيارة عمومية، أي سيارة أجرة ولكنها تحمل الركاب معا كل إلى وجهة مختلفة، ثم طالبا في جامعة بيروت العربية، ثم موظفا في السفارة الليبية أيام كانت عطايا السفارات تشمل السياسيين والصحفيين والمقاتلين في بيروت، ثم صاحبا ً لورشةِ إصلاح سيارات في الإمارات هربا من ماضيه الثوري مع تنظيم “ المرابطون “ وهو تنظيم قومي ناصري عسكري. ما كاد المقام يستقر به في الإمارات حتى نازعته نفسه الأمارة بالسوء إلى تجهيز سيارة مفخخة ضد معسكرٍ لقوات التحالف إبان حرب الخليج الثانية، فتم ترحيله إلى باكستان، ثم عاد ليعمل في ليبيا، لم يفصل لنا ما حدث معه هناك، بل لم يؤكد لنا إن كان قد عمل في ليبيا أم أنه تخيل ذلك، فهو تائه مزمن. ثم عاد إلى بيروت ليجمع خيباته، التي تمثل خيبات أهل بيروت. في زمن العثماني، أُخذ جده ليحارب في القناة ضد الإنجليز واختفت آثاره، وأخذت بقرات جدته لخدمة المجهود الحربي مقابل كيس طحين تأخذه شهريا من معسكرات الجيش في صيدا، تذهب وتعود ماشية تحمل طحينها ، ونعلم علما غير يقيني أن أباه قد أُعدم في أحد سجون الدولة في تهمةٍ جنائية كاذبة. يأخذنا في رحلات منتقاة عبر التاريخ منذ منتصف القرن التاسع عشر، يجعلك تنوح على ما حدث لبيروت وأهلها، وكيف انتقلوا من التآخي إلى الطائفية الخبيثة، وكيف تستبيحهم إسرائيل، التي لم يتوقف الكاتب عند جرائمها بقدر وقفاته عندما أصبحت بيروت مستباحة لجهاز المخابرات التابع للبعث السوري ومآسيه، تحول سنة بيروت من عثمانيين مخلصين إلى قوميين عرب ويساريين وعاملين في التنظيمات الفلسطينية، ثم إلى حريريين (رفيق الحريري) ، تحول بعضهم إلى أخيار(!) يقدمون فروض الولاء والطاعة أمام قبر الهرري الحبشي، بعدها يأخذنا إلى حارتين من حواري بيروت وزواريبها التي تختزن مجموعات من المسيحيين، أبناؤها إن جنح خيالهم هاجروا إلى أفريقيا، وإن قعد بهم في أماكنهم فمصيرهم العمل إن وجدوه في أعمال متدنية الدخل، لا تحتاج مهارة، مدارس هذه الأحياء لا توصل أحدا إلى دخول الجامعات، لا الجامعة الأمريكية المرموقة ولا جامعة بيروت العربية، ننفذ إلي حياة بعض أهلها، يعيش بعضهم على الحلم بتحرير فلسطين وبالعدل، يسخر الكاتب من أحلامهم بعد أن تتعاطف وتحترق معهم، ثم ينقلنا إلى بيروت الراقية وعمارة يعقوبيان (على اسم عمارة يعقوبيان الشهيرة في القاهرة، وكلا الاسمين أرمني) نعيش مع صديقه عمر وزوجته يوجين، عمر ربما كان من حلب اختطفته نوريةٌ صغيرا، وعاش من ثم في أكناف عائلة بيروتية ربته أحسن تربية، تعلم أفضل تعليم، ألم تكن بيروت الأم الرؤوم للاجئين والمحرومين؟ تنقل عمر في الدنيا وعمل في الاعلام الألماني مع يونس البحري، المذيع العربي المشهور أيام هتلر، تعرف في ألمانيا على إيوجين، يهودية ضد الصهيونية، تمردت مع إمها على الصهاينة وهاجر باقى إخوتها إلى فلسطين، عاش الاثنان شيخوخة هادئة يقرأ عمر القرآن، وتقرأ هي من التوراة، تعد لزوجها وصديقه أفضل إفطار للصائم، وفي إحدى ليالي بيروت خرجا ولم يعودا كحال بيروت نفسها. في النهاية الكاتب مثل كثير من القوميين واليساريين ارتد على أفكاره، وللأسف هؤلاء لم يرتدوا للوسطية الطيبة ولكنهم ارتدوا لكي يصل الكاتب إلى نعت الجمهور العربي الذي يسعده السهر مع فيلم “ الرسالة “ وعمر المختار “ فيصفه بـ “جمهور الأحذية”، وذلك لأن الفيلمين دعمهما نظام العقيد الليبي، والأمر غريب فمحتوى الفيلمين لا يمت للعقيد ونظامه الظالم بصلة، ويسعد المسلمين بفنه ومحتواه الفكري. عمل الكاتب في القسم الصحافي بسفارة الجماهيرية الليبية مع السيد سالم عبد النبي قنيبر الملحق الإعلامي، وبالتالي كان يمر عبره الكثير من الصحافيين الذين يطمحون للتمويل الليبي، وكثيرا ما ظفروا بذلك رغم أن مؤسسات بعضهم كانت شديدة التواضع ولا ترقى إلى مستويات الصحافة المقبولة، في يوم من الأيام مر عليهم شاب سوري اسمه مصطفى العقاد ، قال أنه درس السينما في أمريكا وأنه يريد أن يسافر إلى ليبيا ليعرض مشروع فيلم عن رسول الله، دام لقاؤه مع سالم عدة ساعات، غادر بعدها، علق سالم إن الصحافيين يأتون إليه لكى يتاجروا بالقذافي أما هذا فيريد المتاجرة بالنبي ، طلب سالم عمل ثلاث صور للسيناريو ودعا الكاتب إلى العشاء في منزله لمناقشته ، عندما تقابلا قال سالم ما رأيك؟ رد الكاتب بكلمة واحدة: منيح، قال سالم : يا فريخ يا حصان، يقول المؤلف إن هذه عبارة تعني في الحقيقة “ غبى و حمار” ، ثم قال سالم إن الشركة المنتجة أقيمت في البحرين والشريك البحريني من عائلة يهودية، والشريك الآخر أمريكي ثم تحدث عن أخطاء تاريخية في الفيلم، وقرر إرسال السيناريو لتتم إجازته في الأزهر وكذلك في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان ، كان رد الأزهر أن استخدام اسم الرسول في عمل تجاري يحمل إهانة لله ولرسوله والمسلمين، وأن تصويره في بلاد غير إسلامية مسألة مكروهة وغير مضمونة، وأن السيناريو يحمل مخالفات تاريخية وفقهية، وكان رد المجلس الأعلى مشابها. نُقل الأمر برمته إلى وزير الإعلام الليبي، وبقي العقاد يتردد عاما كاملا على مكتب الإعلام في السفارة الليبية ببيروت دون جواب، وأخيرا زار ليبيا عن طريق سفارتها في باريس فقابل العقيد وحصل على تمويل سخي، بلغ خمسين مليون دولار. يصف فاروق عيتاني الفيلم بأنه سينما أونطة. للحقيقة نحتاج إلى مراجعة الشهادة المهمة التى رواها الأستاذ محمد ناصر السنعوسي وكان شريكا في إنتاج الفيلم، ويمكن مراجعة شهادته في حلقات برنامج “ الصندوق الأسود “ على قناة القبس الكويتية. يذكر محمد السنعوسي الذي كان لفترة طويلة مديرا لتليفزيزن الكويت وأصبح فيما بعد وزيرا للإعلام ، أنه بحكم اهتماماته الإعلامية كان يتمنى أن ينتج عملاً فنيا ضخما عن سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم. عندما كان يدرس في جامعة جنوب كاليفورنيا بلوس أنجلس عمل على إنشاء المركز الإسلامي هناك بتبرعات من الكويت . عرض عليه إثرها مصطفى العقاد مشروعا لعمل برنامج وثائقي عن الاسلام يتوجه لغير المسلمين ، ولكن السنعوسي اقترح أن يكون العمل عن السيرة النبوية واستعد أن يبحث عن ممولين، تحمس الاثنان للفكرة، فسافر السنعوسي الكويت وعرض الفكرة على وزير مالية الكويت آنذاك عبدالرحمن سالم العتيقي، الذي سُر بالفكرة وعرضها على ولي عهد الكويت آنذاك الشيخ جابر الأحمد ونالت استحسانه، وعليه تم تأسيس شركة إنتاج تقوم على تنفيذ المشروع، لم يصدق العقاد حتى جاء الكويت وسمع بنفسه. تكفل العتيقى ب ٢٥٪ من رأسمال الشركة بإسم دولة الكويت، كذلك أعطى العتيقي السنعوسي مجموعة من الرسائل، أولها للشيخ عيسى بن راشد في البحرين ليتم الترخيص للشركة هناك وكان ذلك لتفادي بيروقراطية الأنظمة الكويتية، ثم ذهب السنعوسي برسالة إلى عبد السلام جلود رئيس الوزراء الليبي الذي حوله إلى وزير المالية ومن ثم إلى وزير الثقافة، الرسالة الأخيرة كانت لوزير الثقافة المغربي، وهكذا تقاسمت الدول الثلاثة رأسمال الشركة، وشُكل مجلس إدارة برئاسة السنعوسي ضم ممثلين لكلٍ من هذه الدول. انتقل السنعوسي إلى القاهرة وأمضى هناك ستة أشهر لترتيب المسألة، وكان معه أحد أشهر كتاب السيناريو هيرمان غريغ ، وهو ايرلندي كتب سيناريوهات لأفلام مهمة، في القاهرة عاش غريغ الأجواء الإسلامية، المساجد والمتاحف والناس. تعاقد السنعوسي مع مجموعة من المؤلفين، المؤلف الرئيس كان عبد الحميد جودة السحار، وراجع العمل عبد الرحمن الشرقاوي، وشارك توفيق الحكيم في جلسات الكتابة. وتم اختيار الممثلين للنسختين العربية والإنجليزية . يقول السنعوسي إن العقاد كان مبتدئا آنذاك ولم يسبق له أن انفرد بإخراج فيلم قبل ذلك، ولكنه درس السينما في أمريكا، ولديه إطلاع وافر على طرق الإنتاج السينمائي . كان السنعوسي هو من اختار الممثلين حتى السوريين منهم نظرا لأن العقاد لم يكن مطلعا على الفن السوري. تم اختيار المغرب للتصوير، واستؤجر فندقٌ بأكمله لإقامة المشاركين، ومن بينهم ممثلين، وفريق إيطالي للديكورات والإضاءة والتصوير وما إلى ذلك، بُنى مجسم للكعبة في قرية تبعد عشرين كيلا عن مراكش، كما أدخلت بعض التغييرات على واجهات مباني القرية لتصبح أكثر شبها بمكة والمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصبح أهل القرية كومبارس . بعد فترة طالبت المغرب الفريق بوقف التصوير، وكان واضحا أن بيان رابطة العالم الإسلامي الذي بنى على رأي الشيخ ابن باز والرافض إجازة الفيلم كان سبب استنكاف المغرب. الممثل الليبي في مجلس الإدارة اقترح الانتقال إلى ليبيا وعرض الأمر على الرئيس القذافي، الذي قام بتعويض ما توقفت عن دفعه الدول الأخرى من ميزانية الفيلم. أقيمت مدينةٌ في جنوب ليبيا ليتم تصوير المشاهد فيها، كما أقيم سكن لفريق الفيلم، كان عبارة عن كرفانات ومسبح تم استيرادها من أوروبا، وعندما سُئل السنعوسي لماذا اختار ليبيا والمغرب دون غيرهما فقال إن ذلك كان اختيار العتيقي. قامت الشركة بإرسال سيناريو الفيلم إلى ثلاث جهات، الأولى إلى رابطة العالم الإسلامي التى رفضته مطلقا، وقد ذهب السنعوسي والعقاد إلى الشيخ ابن باز، ولكن الشيخ ظل على رأيه المعارض، وأما الأزهر فأرسل بعض التوجيهات وقال إنه يحتاج إلى الإطلاع على الفيلم قبل انتهائه، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان وكان يرأسه موسى الصدر -وهو الرجل الذي اُتهم القذافي بتدبير اغتياله- كان رده مشجعا، وأصبح اسم الفيلم الرسالة. ويتابع السنعوسي : أما فيلم عمر المختار فقد كان في الأصل اقتراحا من القذافي، وقد تم إنجازه بنفس مجموعة العمل التي أنجزت الفيلم الأول و في نفس المواقع. بناء على رأي رابطة العالم الإسلامي لم يعرض الفيلم في أكثر الدول الإسلامية، بل إن الكويت رفضت عرضه ولم يعرض فيها إلا في عام ٢٠١٨ بعد أن تم عرضه في قناة MBC السعودية، وكانت أول دولة عرض فيها هي الأردن، وقد دعا الملك حسين العقاد لزيارة الأردن وأثنى على الفيلم. أميل إلى أن رواية الأستاذ السنعوسي هى الصحيحة ، وأدعو الله للبيروتي