
ارتبطت فكرة الحجاب، سواء كانت عباءة، نقاباً، برقعاً، «غطوة»، بإخفاء ملامح المرأة، لكن هذا الإخفاء لم يكن مجرد حجب بصري، بل كان بمثابة دعوة للخيال البشري ليبدع في رسم صورة الجمال المثالي كما يتمناه ، فالمثل الدارج “كل ممنوع مرغوب” يجد صداه في هذا السياق، حيث يتحول الغموض إلى محرك نفسي قوي يجذب الانتباه ويثير الفضول، في علم النفس يُعرف هذا (بمبدأ الندرة)، الذي ينص على أن ما هو نادر أو غير متاح يصبح أكثر جاذبية وقيمة في عيون ونفس الناظر، هذا المبدأ يفسر لماذا يتحول الجزء المرئي من المرأة، كالعيون المكحلة أو حركة العباءة، إلى مركز جذب يستحوذ على الاهتمام، بل ويُضفي عليه الخيال جمالاً قد يتجاوز الواقع. من الناحية النفسية، يُعتبر الغموض أحد أقوى العوامل التي تحفز الخيال البشري، عندما يُحجب الوجه، يصبح العقل البشري كالفنان الذي يرسم على لوحة بيضاء، يملأ الفراغات بما يتمناه أو يتخيله، هذه الظاهرة تُعرف في علم النفس (بـتأثير الإكمال)، حيث يميل العقل إلى استكمال الصورة الناقصة بناءً على توقعاته ورغباته الداخلية، في حالة العباءة أو النقاب، يتحول الجزء الذي خلف القطعة السوداء إلى لوحة فارغة يرسم عليها الناظر صورة الجمال المثالي، مستنداً إلى تجاربه الشخصية، رغباته العاطفية، أو حتى الصور النمطية المثالية التي يحملها عن الجمال . إضافة إلى ذلك يلعب (تأثير زيغارنيك) دوراً مهماً في هذا السياق، هذا التأثير يشير إلى أن الأمور غير المكتملة أو المبهمة تبقى عالقة في الذهن أكثر من الأمور المكتملة، وهو مفهوم نفسي اكتشفته عالمة النفس السوفيتية بلوما زيغارنيك في عشرينيات القرن العشرين وينص على أن الأشخاص يتذكرون المهام أو المعلومات غير المكتملة أو غير المحسوسة بشكل أفضل من تلك المكتملة، بمعنى آخر، عندما يترك شيء ما دون اكتمال، يبقى عالقاً في الذهن ويحفز التفكير المستمر حوله، مما يخلق نوعاً من التوتر النفسي حتى يتم إكماله، مثلاً عندما يرى الناظر عينين مكحلتين أو حركة عباءة تتمايل، فإن عقله يظل مشغولاً بمحاولة استكمال الصورة، مما يعزز الانجذاب والافتتان، هذا يفسر لماذا تروي القصص الشعبية حكايات عشق بدأت من نظرة عين أو لمحة برقع. ظهور بعض اجزاء الجسم والتي في الغالب تكون العيون التي يمكن تجميلها بالكحل يجعل الخيال يتضاعف في رسم صورة جمال المرأة، مع معرفتنا البديهية ان ليس بالضرورة ان يكون جمال العيون امتدادا لجمال الوجه كله. مثلاً : «حسيبك الله ياللي تمشين بالعباية والملبس الزين حار قلبي من كحيل العين وتاه فكري ياللي تغنين» يُقال ان الأصل في البيت الثاني، (بالعباية والمنقب الزين) والمنقب في لهجة أهل مكة مكان ظهور القصيدة يُقصد به النقاب ولكن بفتحة أوسع للعين. وهنا نرى سيطرة العباءة والنقاب على المشهد والعاطفة والتي عززها ظهور العيون الكحيلة، القطع السوداء الخارجية والعيون رسمت كل صور الجمال في ذهن الناظر لها واوقعته في غرامها وهام بها وتاه فكره. نعرف مما ورد في الأشعار بأن العيون، ليست مجرد جزء من الوجه، بل هي نافذة الروح التي تحمل في طياتها لغزاً يثير الفضول، في الثقافات التي ترتدي فيها النساء النقاب أو البرقع، تصبح العيون مركز التواصل البصري، وهي تحمل تعابير عاطفية قوية، ومن الناحية النفسية يُعتبر التواصل البصري أحد أقوى أشكال التواصل غير اللفظي، حيث يمكن لنظرة واحدة أن تنقل مشاعر الحب، والعشق وتحرك الفضول خاصة مع اختفاء بقية الوجه، والعين تصيب القلوب أما لجمالها الرباني المجرد أو باستخدام الكحل الذي كان أبرز وأهم أدوات التجمل عند المرأة، مما يعزز من هذا التأثير ويجعلهما أكثر جاذبية وإثارة للانتباه. «يوم الاثنين الضحى بالسوق جاني لابسٍ له برقعٍ، من دون شيله صافي الخدين بعيونه رماني له عيونٍ سود ورموشٍ ظليله ليتني وياه انا والعمر فاني ليتني عنده واشوفه كل ليله» هنا لم يحضر الكحل بل العين والبرقع وهو ليس مجرد غطاء، بل عامل رئيسي بأن يتحول النظر إلى سهم يصيب القلب، الشاعر لا يتحدث عن الوجه، بل عن البرقع نفسه كمصدر للجاذبية، مما يعزز فكرة أن الغموض الناتج عن الحجب هو المحرك الأساسي للعاطفة ، لدرجة أصبحت العيون الجزء المرئي سلاح عاطفي يُصيب القلب، كما يُعبر الشاعر بقوله “بعيونه رماني”، هذا التعبير يعكس القوة النفسية للعيون في استثارة المشاعر، حيث تتحول إلى رمز للجمال والفتنة. «ماهقيت ان البراقع يفتتنني لين شفت ظبا النفوذ مبرقعاتِ الله واكبر ياعيون ناظرني فاتنات ناعسات ساحراتِ» وهنا أيضاً لم يكن وجه المرأة هو الملفت والفاتن بل البرقع هو المحرك الأساس للفتنة في مخيلة الشاعر، فقط حملت العيون سحراً خاصاً ولغز يثير الفضول والعشق، وهذا يتماشى مع مفهوم (الإثارة الناتجة عن الحجب)، حيث يصبح ما هو مخفي أكثر إثارة للاهتمام لأنه يترك مجالاً للتخيل. «يا سعد لو تشوف الشيب ماني بشايب لابسات البراقع يا سعد شيَّبني ولعني بهواهن لين ذقت المصايب عذبني معاهن مرة ٍ واتركنّي واشهد إن الهوى والحب فيه العجايب يوم فيه المسره ويوم فيه التمني لين شفت البريقع طير العقل مني قمت من غير ما اشعر بعالي الصوت اغنّي ومن خزرني بعينه اونس القلب ذايب عقب فرقا الحبايب ابعدن واتركنّي» هنا بلغ الشاعر مبلغه من التأثر النفسي، حيث يصبح الحب الناتج عن الغموض عبئاً عاطفياً يؤثر على حالة الشخص النفسية والجسدية، وهو ما يعرف (بالإجهاد العاطفي) الناتج عن الرغبة فيما هو غير متاح أو مجهول، الشاعر يعبر عن معاناة نفسية ناتجة عن عدم القدرة على استكمال الصورة، مما يجعل العشق أكثر حدة وألماً. «صاحبي يلبس البرقع ماهي عادة له مير اخذ سلم جيرانه وصارت طبيعه مثل من قال لاجيت الوطن خذ دله اتبع الناس وان ماطاعك الوقت طيعه هيه ياللي مكلفكم على برقع له وسعو قرضته ترى عيونه وسيعه» ومثلما ذكرنا في المقال السابق ان الفن الشعبي لديه من الجرأة والصراحة بأن يتحدث بما يدور في النفس مخترقا كل الحواجز الاجتماعية ، وهذا ما جاء في هذه القصيدة ، كلمات تحمل التوتر الثقافي الناتج الذي قامت به حبيبته عندما أخذت بطباع جيرانها بلبس البرقع، وعدم قبوله بالواقع الجديد الذي قامت به مما يسمى (الصراع المعرفي)، حيث يشعر الشاعر بالتناقض بين توقعاته التقليدية عن حبيبته وبين ما فرضته التحولات الاجتماعية من تغير، وهذا الصراع يعزز من الشعور بالحنين إلى الماضي أو إلى صورة مثالية للحبيبة لم تعد موجودة، لذا يطلب : «هيه ياللي مكلفكم على برقع له وسعو قرضته ترى عيونه وسيعة» فإن كان ولا بد من البرقع فعليها أن تزيد من فتحة العين عله يعطيه من مساحة الوجه والنظر لوجه محبوبته مما يوحي بالنفور وعدم القبول بما جرى من تحولات أثرت على رؤيته لوجه محبوبته. وفي مكان آخر تأكيد وصراحة واستنارة الفن الشعبي: «يا ظالم جمالك اكشف برقعك يا ويلك من الله ضيعت الجمال انت حر نفسك ومحد يمنعك يا سيد العذراى عهد الجهل زال» بهذه الافتتاحية المباشرة نجد أنفسنا أمام طلب واضح وصريح، والإيقاع العدني الراقص ينم عن الإصرار والوعي بالطلب، فهو لم يعد يتحمل البقاء في منطقة الغموض وأوهامها، فيطلب كسره واستبداله بالوضوح، فرغم فتنة الغموض ودوره في تحريك الخيال إلا أن رغبة الواقع والحقيقة والاقتراب من الجمال الحقيقي كانت أقوى من هيام الخيال. لم تتوقف القصائد والأغاني عند البراقع فقط، فهنا مثلاً ذهبت للثام حين استدعى الموقف: «سلمولي على اللي ساكنٍ في الرفيعه بلغوا سيد الخلان مني سلامي اسمر اللون خلي ابو عيون ٍ وسيعة ابو ثنايا تكاشف تحت طرق اللثامي» وهنا قد يكون فيه قليل من التفصيل، حيث تختلف «الغطوة» بين المناطق، وربما كان يقصد الشاعر هنا اللثمة التي تغطي من فوق الأنف حتى الدقن وهي امتداد للشيلة السوداء التي تلف الرأس وتغطي الشعر ويؤخذ جزء من مقدمتها لتغطية الحواجب وتكون كفعل النقاب ولكن بتكنيك مختلف وكونها جزءا من الشيلة ففي الغالب أنها طرق واحد، والطرق هو طبقات القماش والشيلة التي يكون جزء منها لثام مصنوعة من القطن او البوليستر، خفيفة، وممكن رؤية الاسنان والفم، لذا بعض النساء خاصة كبار السن اللاتي اعتدن لبس اللثام تكون لثمتها طرقان ليس بقصد التحجب ولكن ماجرت عليه العادة من حركة اليد التي تقسم الشيلة نصفين عند لفها على الانف والفم. في التسعينات انتشر بين البنات تغطية الوجه بالطرحة وثقلها متفاوت وربما لذلك جاءت اغنية «شيلي الطرحة» عام ٢٠٠١: «شيلي الطرحه عن الوجه السموح نوري كل الوجود بطلتك املكيني بالغلا عمر وروح زلزليني لا رميتي طرحتك» ما يخفى بالأسود يُسلّط عليه نور الخيال، لذلك، لم يكن الحجاب غياباً بقدر ما كان حضوراً داخلياً، حضوراً للجمال المتخيل، وللرغبة المؤجلة، وللقصص التي تبدأ من نظرة عين ولا تنتهي إلا داخل القلب. كثير من القصائد، كانت شهادة حية على كيف يُمكن للثقافة أن تُجمل الغموض، وتمنح ما هو مستور سطوة من نوع خاص، الغطاء في هذه السياقات كان حجباً لطرف وسيطرة على مخيلة طرف آخر، وهو إثبات أن ما يُحجب لا يضعف أثره بل قد يشتد.