
الإيمان من أكثر الأمور تعقيداً وغرابة عند الإنسان، فمن شأنه أن يدفع حتى حياته أحياناً من أجل فكرة واحدة يؤمن بها ويصدقها، فكرة ربما صنعت بإتقان من قبل جهات لها مصالح معينة، فتمرر إليه ويتبناها لتكون عقيدته التي لا تقبل النقاش والتفاوض، الكثير من الجماعات المتطرفة والدينية تستهدف المراهقين أولئك الذين لم ينمو شعر شواربهم بعد كما لم يكتمل نموهم العقلي كذلك، وهؤلاء هم وقود الجماعات من السهل إقناعهم بفكرة ما ومن السهل تحريكهم نحو الجحيم .. وهو العمر الذي تُغرس فيه القيم إذا حسُن المعلم والوالد. والفيلم الذي سأتحدث عنه هذا الأسبوع جعلني أرى الكثير من الروابط والأفكار المشتركة ما بين الجماعات الإرهابية والمتطرفة باختلاف مذاهبها وانتماءاتها وعرقها، وهو فيلم «التاريخ الأمريكي اكس» فيلم خطير يطرح فكرة التربية والتعليم وخطورتهما على المراهق، وكيف يمكن لفكرة أن تصنع من مراهق صغير وحشاً لا يرحم، وعمليات التجنيد المتقنة التي يتم الترتيب لها بشكل دقيق لتكوين كتلة غير منتمية، عبر مجموعة من البشر توحدهم قضية وتجمع بينهم، حتى إذا اختل إيمان أحد أفراد المجموعة بالفكرة، بات من الصعب عليه البقاء لا في المجموعة وحسب، بل من الصعب الإبقاء عليه على قيد الحياة. هي جماعات على حافة الحياة تتغذى على الظلام والموت والدم .. ولا يمكن أن تستمر وتكبر دون أن تقدم قرابينها في سبيل هذا المجد الكاذب، ولا شك سيدفع المراهق ثمن هذا الخطأ عاجلاً أم آجلاً فهو خطأ لن يمر كغيره ولن يتمكن من تخطيه وإصلاح الحياة من بعده وكأنه لم يكن. ولابد أننا قابلنا في حياتنا على الأقل مرة واحدة شخصاً يشبه «ديريك» الشاب الذي يظن أنه سيصلح العالم ويطهره بمجرد أن يهين أو يقتل أو يمارس العنف، وبالرغم من كون قضية الفيلم كانت حول النازيين الجدد والتعصب ضد السود في أمريكا في التسعينات، إلا أنك تشعر أن القضية ما تزال حية، وما يزال الفيلم يلامس الكثير من الخطوط الحمراء.. وما زال يطرح سؤالاً كبيراً حول الانتماء والإيمان ووصمة العار التي تلحق بالإنسان الذي يصحو من غيبوبته فيقرر أن يترك الظلام ويبدأ حياة النور هل سيقبله العالم ؟؟ أم أننا مجتمعات تستسهل تعليب الأشخاص وقولبتهم ضمن قوالب معينة وليس لدينا استعداد أبداً أن نغير فكرتنا عن الأشخاص أو نحررهم من أحكامنا عليهم، أو حتى نساعدهم في بدء حياة جديدة ! American History X»» فيلم عن شاب يتم التغرير به فينضم إلى مجموعة متطرفة ضد الآسيويين والسود ببساطة ضد كل ما هو غير أمريكي، ليتم تجنيده في عمر مبكر بعد وفاة والده، ليدمر عائلته ويكون صورة بشعة لتكون مثالاً سيئاً لأخيه الأصغر عمراً. لينتهي به ذلك في السجن بعد قيامه بقتل ثلاثة أشخاص من السود .. تتغير حياته وأفكاره وإيمانه قبل ذلك بعد دخوله للسجن، حيث تحدث لديه صدمة تتسبب في صحوته، الفيلم يمعن النظر في العنصرية وكأنه دراسة متقنة في كيفية تشكّل الفكر المتطرف وتفكيكه، يعرض بشكل مرعب كيف يمكن أن تنشأ الكراهية من الجهل والضعف، وكيف يمكن للحقيقة والتجربة الشخصية أن تكسر أكثر الأيديولوجيات تطرفًا، إنه فيلم يدعو للمساءلة ويُثبت أن الوعي لا يُورث بل يُكتسب، وغالبًا بثمنٍ باهظ، في زمن تتصاعد فيه نيران الكراهية والانقسام، يظل فيلم American» «History X (1998) علامة فارقة في تاريخ السينما الأميركية، ليس فقط بسبب جرأته في تناول قضية العنصرية البيضاء، بل لأنه يغوص عميقًا في جوهر التحوّل الإنساني، وهو من إخراج «توني كاي» وبطولة «إدوارد نورتون»، والذي يقدم لنا أكثر من قصة متطرف يُغيّر مساره؛ إنه تأمل فلسفي و سياسي ونفسي في فكرة الآخر وفي قدرة الإنسان على التخلّي عن أعمق معتقداته عندما يواجه ذاته الحقيقية. الفيلم لا يعالج الكراهية كغريزة فقط بل كـفلسفة بديلة يلجأ إليها من يشعر بالضياع، أو بالرغبة في الانتماء، والكراهية في هذا السياق هي منظومة فكرية تُبنى على خوف وجودي من الفقد والتهميش، يخوض البطل «ديريك» رحلته عبر تجربته في السجن من النازي المتطرف الذي يرى العالم بلونين فقط (أسود وأبيض)، إلى شخص بدأ يرى رماد الحقيقة وتعقيدها. «إدوارد نورتون» يُقدم واحدة من أعظم الأداءات في السينما الأميركية بتحوّله الجسدي والروحي، مما يجعل التغيّر الذي يعيشه ديريك واقعيًا ومؤلمًا في آنٍ معًا، الفيلم يُبرز أن العنف قد يأتي من شعور عميق بالخذلان، فبعد مقتل والده على يد رجال إطفاء سود، يجد «ديريك» عدوًا يوجه نحوه هذا الغضب وهو الآخر وخاصة ذلك الآخر داكن البشرة، ديريك في السجن لا يتلقى فقط عقوبة جسدية، بل صدمات إدراكية تُجبره على إعادة النظر في معتقداته، فيُدرك أن النظام العنصري الذي آمن به هش وأن العدو الذي صوّره خياله العنصري هو في الحقيقة إنسان يشبهه تماماً، أما «داني» الأخ الأصغر والذي كان امتداداً نفسياً لحالة ديريك الأولى والذي يفسر أن دورة العنف مستمرة في حال لم يوقفها الوعي في منتصف الطريق، والنهاية الصادمة – بمقتله – تؤكد أن التغيير الفردي لا يكفي عندما يكون المجتمع كله مسمومًا. الفيلم مرآة لأميركا ما بعد الحرب الباردة، حين بدأت تتفشى مشاعر العجز بين طبقات البيض الفقيرة نتيجة الهجرة والعولمة وانهيار الطبقة المتوسطة، في هذا المناخ تنمو حركات النازيين الجدد، التي يُظهرها الفيلم بوصفها جماعات تبحث عن الهوية وسط فوضى اجتماعية، ولن تستطيع الشرطة وحتى الأسرة احتواء ديريك أو إنقاذ داني، الدولة غائبة وهذا الفراغ هو ما تملؤه الكراهية، والتطرف لا يحتاج إلى منطق، بل إلى خطاب بسيط أو مباشر يُعفي الفرد من الشعور بالذنب ليمنحه بطولة زائفة و هذه الحركات تُقدّم الآخر كسبب لكل معاناة، وهو ما يجعلها جذابة، خصوصًا في أوقات التدهور. «American History X» هو عنوان ساخر لكنه دقيق الفيلم يتعامل مع التاريخ الأميركي غير الرسمي، ذلك الذي لا يُدرّس في المدارس، لكنه يسكن في أحياء الطبقة العاملة كإرث العبودية والعنصرية البنيوية وصعود النازيين الجدد في مما يمثل تراجع الثقة بالمؤسسات و الاحتقان العرقي بعد عصر الحقوق المدنية، وكأنه يمزج بين الحاضر والماضي ليُظهر أن الكراهية ليست فقط مشكلة معاصرة بل تاريخ طويل من القهر والتفرقة، وهو تأمّل قاسٍ في فكرة التحوّل الإنساني، إنه يطرح تساؤلًا عميقًا هل يمكن لإنسان نشأ على الكراهية أن يتحرر منها فعلًا؟ ويقدّم إجابة مقلقة وهي: نعم، لكن الثمن قد يكون باهظًا، ولا يكفي دائمًا لإنقاذ من نحب. وهو لم يمنحنا نهاية مريحة، بل أجبرنا على النظر إلى المرآة، نحن كمجتمعات أو كبشر، ويسألنا ما الذي نعلّمه لأبنائنا؟ وهل الكراهية مرض فردي؟ أم نظام اجتماعي متكامل؟ وكأننا نناقش بطريقة غير مباشرة سؤالًا فلسفيًا قديمًا هل الإنسان ضحية بيئته وظروفه أم أنه يملك حرية الاختيار؟ ديريك هو نتاج لمنظومة اجتماعية مضطربة، كفقدان الأب والفقر والخطاب المتطرف، وكذلك لفكرة صغيرة غرسها والده في ذهنه الطري قبل نضوجه. السجن يُمثّل له لحظة الوعي التي تقلب إدراكه، فالكراهية كمنظومة فكرية تُبنى تدريجيًا وتُغذّى بالتجربة والخطاب الجماعي، الفيلم يعري هذه المنظومة ويُظهر هشاشتها، وكيف يمكن للإنسان أن يُشيطن الآخر دفاعًا عن شعور زائف بالهوية أو التفوق. الماضي يُصوّر بالأبيض والأسود: رمزية للجمود، الجهل، واللاوعي، والحاضر بالألوان رمزية للحياة، النضج إدراك التعقيد، هذا الأسلوب يعمّق البُعد النفسي ويفصل بين مرحلتين ذهنيتين في حياة ديريك، استخدام الفلاش باك بأسلوب متقطع يخدم البناء الدرامي ويكشف الخلفية بالتدريج، مما يجعل التحول أكثر إقناعًا، البناء المتقاطع بين ديريك وداني يعزز من التوازي البنيوي بين الشخصيتين، «إدوارد نورتون» قدّم أداءً جسديًا ونفسيًا مذهلًا، يتنقل فيه بين الوحشية والندم، تعبيرات الوجه، التحكم بالصوت، التناقض في المشاعر، كل ذلك صنع شخصية معقدة ومقنعة، التحول من الكراهية إلى الوعي، ديريك ليس فقط يمر بتجربة سجن، بل يُعاد تشكيل شخصيته من خلال علاقته بـ”لامونت” زميله في العمل داخل السجن، الذي يكشف له التناقضات والفراغ في عقيدة التفوق الأبيض، شخصية ديريك تُظهر كيف أن العنف غالبًا ما يُخفي خوفًا عمaيقًا من فقدان السيطرة، ومن الآخر المختلف. داني كرمز للوراثة النفسية الأخ الأصغر داني هو مرآة لمرحلة سابقة من ديريك. هو شاب ذكي لكنه ضائع ويبحث عن معنى، ويجده في الكراهية كما وجده أخوه من قبل، الفيلم يُوجّه نقدًا صريحًا للمجتمع الأميركي الفجوات الطبقية، فشل التعليم، العنصرية البنيوية، وانعدام العدالة الاجتماعية، يظهر ذلك من خلال الطريقة التي تُرك بها داني للتيارات المتطرفة دون تدخل فعّال من المدرسة أو المجتمع، الفيلم يُظهر تطور هذا الفكر داخل الولايات المتحدة، ويعرّي آلياته الشحن العاطفي، استعمال الشعارات و تأجيج الإحساس بالظلم بين البيض، يمثل ديريك نسخة حديثة من النازيين الجدد الذين انتشروا في أميركا بعد السبعينات، كرد فعل على الهجرة والعولمة والفقر في طبقات معينة من البيض. الفيلم يقع ضمن سياق ما بعد حركة الحقوق المدنية (1960)، حيث بدأ بعض البيض يشعرون بأنهم فقدوا امتيازاتهم، وظهرت مجموعات تحاول استعادة هويتهم، لكن الكراهية والعنف والتطرف والتعصب لا تبني المجتمعات ولا تصلحها بل تؤسس للهمجية والفوضى والخراب ثم إلى الهاوية.