
تحاول هذه السطور البحث والتقصي عن شفاهية شعر العرضة والصيغ الشعرية الجاهزة التي يستخدمها الشعراء باستمرار ومحاولة إيجاد الصلة بين هذا النوع من الشعر وسلفه الشعر الجاهلي. لا يخفى عليكم أن الأدب الشفاهي هو «شكل من أشكال الأدب الذي يتم نقله وتناقله شفهيًا، أي عن طريق الكلام بدلاً من الكتابة. ويشمل هذا النوع من الأدب العديد من الفنون الادبية مثل الحكايات الشعبية، والأساطير، والأغاني، والأمثال، والألغاز، وغيرها». ومن المهم أن يحقق هذا الأدب المتعة للمستمع والتشويق والسيطرة على ذهنه والتأثير فيه. وتأتي صعوبة هذا الأدب من وجهة نظري المتواضعة في توثيقه ولمّ شتاته من عقول وذاكرة الرواة وبخاصة أن بعض الرواة المسؤولون عن نقله للآخرين قد يحرِّفون أو يدلسون فيه وهنا تأتي مهمة الباحث الحقيقية في هذا النوع من الادب واستخدام الأدوات التسجيلية اللازمة لتوثيقه والاستعانة بأكثر من راو للتأكد من صدق الحكاية أو القصيدة وسواهما وإن لزم الأمر الاستعانة بالأنثروبولوجيين واستشارتهم فيما قد يشكل على الباحث وتأخذنا الإشارة هنا الى الدور الكبير الذي تقوم به دارة الملك عبدالعزيز التي لا تألوا جهدا في تقديم يد العون والمساعدة لكل من يلجأ اليها. ملاحظة أجدها جديرة بالتنويه هنا هو أن ليس كل حديث أو ذكريات أو وقائع يمكن أن تنتمي إلى الأدب فمثلاً الأحداث التاريخية قام بتوثيقها المؤرخون وهم مسؤولون عن ذلك ولا يمكننا أن نضم المعارك والحروب إلى دائرة الادب وفنونه المتعددة وعلى الموثق الأدبي الانتباه لذلك. لقد أنشد الشاعر الجاهلي قصيدته على صدور الصحاري وظهور الإبل وبطون الأودية والشعاب، مستخدماً أعضاء النطق اللسان والشفتان والأحبال الصوتية والحنجرة، مستخدما في أحايين كثيرة العصا أو القوس كوسيلة ضبط إيقاعية لقصائده ، ما يعني أن هذا الشعر «نشأ شفويا ضمن ثقافة صوتية سماعية أي، مسموعاً لا مقروءاً غناءً لا كتابةً مُعبّراً عما يعرفه السامع مسبقاً، عاداته وتقاليده حروبه ومآثره انتصاراته وانهزاماته»، ومستفيداً من «الصيغ الشعرية الجاهزة الثابتة – عبارات/ جمل/ أمثال/ حكم – تلك التي ثبتت في الذاكرة وتغلغلت في الوعي واللاوعي معاً» مثل (وقد اغتدي والطير في وكناتها ) وهي صيغة شعرية تداولها الشعراء- يقول امرئ القيس: وقد اغتدي والطير في وكناتها // بمنجرد، قيد الأوابد، هيكل ويقول علقمة الفحل: وَقَد أَغتَدي وَالطَيرُ في وُكُناتِها // وَماءُ النَدى يَجري عَلى كُلِّ مِذنَبِ ويبدأ الناس في تداول تلك القصائد مشافهة أيضاً، ولم يكن للكتابة دور في توثيقها بل الذاكرة والذاكرة وحدها المسؤولة عن حفظها وانتشارها في المجتمعات العربية من خلال الرواة وعابري السبيل وسواهم. ما سبق يأخذنا مباشرة إلى لبّ عنوان هذه السطور ،قصائد العرضة في جبال السراة – عسير– التي ينشدها الشعراء في حفلات الزفاف والتكريم والاحتفالات الوطنية وسواها، وتلتفّ حولهم الجماهير مستمعين إلى الألحان التي يغنيها الشعراء، وتعكس إيقاع الحياة الجبلية وترانيمها البديعة، ولا يطلب الجمهور اليوم من شعراء العرضة غير المتعة والرقص على إيقاعات الزير والزلفة لا أكثر - على عكس ما كانت سابقاً عليه من استعداد للحرب والقتال لبث الحماس في نفوس المقاتلين أو الاحتفال بالنصر - ثم ينصرفون بعد ذلك إلى منازلهم محتفظين ببعض القصائد في الذاكرة ونقلها الى الآخرين الذين لم يحضروا تلك الحفلات والإشادة بشاعر ما أو الانتقاص من شاعر آخر، وناقل الشعر هذا إما أن يكون: - (راوٍ) يحمل ذاكرة قوية ويحفظ القصائد وينقلها إلى الناس في مجالسهم، - وإما أن يكون شريط «كاسيت» يقوم صاحب المناسبة بتسجيلها ومن ثم بيعها على دكاكين «الاستديو الصوتي» وشراء الناس لها فيما بعد، - وإما أن يكون «كاسيت فيديو» مسجل أيضاً صوتاً وصورة، - أو أن يكون هذا الراوي اليوم مقطعاً مسجلاً عبر وسائط التكنولوجيا الحديثة ويتناقل الناس هذا الشعر عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة في الأجهزة الذكية والسريعة (الهاتف المحمول). سيكون من المفيد الإشارة إلى صفة العرضة وبخاصة - عرضة رجال الحجر - حتى نلمّ بفكرة هذا الموضوع والتي تدخل في سياق الفلوكلور الشعبي السعودي، منتظمة بإيقاعها الحربي الخاص تعكس شجاعة «العراضة» – الرجال غالباً - بأزيائهم اللافتة وانضباطهم في الاداء والمرسام - أشبه بالاستعراض العسكري - وتبرز قدراتهم في استخدام الأسلحة والبنادق والمقمع والسيوف والخناجر وسط المحافل، ويتقدم الصفوف الشيوخ والأعيان سباعية أو ثمانية ثم يتدرج الصف إلى ثنائي يسيرون في الميدان وتبدأ بخطوات مركزة ثم تسير باتجاه دائري يتوسط الدائرة المزيف والمزلف ورفاقه على الزير والدفوف وأضيف إليها حديثاً المزمار الذي يصاحب إيقاع الطبول وسط نيران معدة لتسخين الأدوات، ويقف الشعراء على مقربة منهم «والعراضة» تمارس رقصتها على تلك الإيقاعات إلى أن يبدأ الشاعر في الغناء (الرزف) ثم يردد المشاركون بعده وهكذا. ما يهمُّ هنا هو الشعر، الذي ينشده شعراء العرضة – الشقر – الجناس، والذي يتميز به شعر العرضة ويقيده أيضاً، والذي يتكون من اللغة – اللهجة الجبلية - ورؤية الشاعر والبيئة التي يُنشد فيها، ويتمتع بالتنوع في القوافي في القصيدة الواحدة، وتأخذ القصيدة شكل البدع من الشاعر الأول والرد من الشاعر الثاني وهكذا وتظل التفعيلات والأوزان موازية لبحور الشعر العربي الفصيح، ويستهل الشاعر البدايات غالباً (يالالا لي لالاه ) وقد جدد الشعراء الجدد في ألحان العرضة تماشياً مع الحياة الحديثة وإيقاعها السريع. لا جدال في اعتماد هذا الشعر على المشافهة والحفظ والسماع، ولا يعتد فيه بالكتابة بل إن الأمر قد يصل إلى الانتقاص من الشاعر الذي يكتب القصيدة ثم يأتي ليلقيها أمام الجمهور، لأن الأصل هو الإلقاء والإنشاد في المناسبات الاجتماعية، والاعتماد على الذاكرة وسرعة البديهة ولربما يُشك في قصيدة الشاعر المكتوبة «وذلك تماشياً مع أنظمة الثقافة الشفوية» وقد يكون الصوت الحسن للشاعر أكثر طلباً له في الحفلات ووصولاً إلى وجدان الجماهير، حتى لو كانت موهبته الشعرية دون المستوى الفني المطلوب في هذا النوع من الشعر؛ فالمقيّيم لتجربة الشاعر هنا هو الجمهور ومن يحدد أو يدعو هذا الشاعر أو ذاك للمشاركة الدائمة في الحفلات الاجتماعية المتنوعة، متى ما استطاع الشاعر مواصلة امتاع الداعين بخاصة واستدعاء أمجادهم ومآثرهم وما إلى ذلك. لا يعدّ خجلاً في شعر العرضة استخدام الشاعر للصيغ الشعرية الجاهزة والمتداولة بين الشعراء السابقين واللاحقين، ما دامت حقوق الملكية الفكرية لا تطبق تماماً في هذا النوع من الشعر: «باسم الله أبدا واصلي ع النبي» أو «سلام ياللي رافع البيرق» أو «يوم جانا داعي الشيخ أبو صالح» أو « بين خلق الله نماريبه»؛ فيستخدم الشاعر صيغة شعرية من الصيغ المحتشدة في ذاكرته كلما وجد ضرورة لذلك ما دام أنها «تحمل القيمة الوزنية لقصيدته ذاتها من دون أن يعبأ أن شاعراً ما قبله أو معاصراً له استخدمها ما دامت الصيغة ليست ملكاً لأحد»، حتى وإن طوَّر الشاعر بعض تلك الصيغ أو عدّل بعض المفردات ولم تخرج عن المعنى المراد. على الأرجح أن شاعر العرضة الجديد أيضاً تحاصره هذه الصيغ الشعرية الجاهزة، والبعض لم يستطع تجاوزها أو ابتكار صور شعرية مغايرة فهو وإن بدا أكثر معاصرة وتطوراً لما يعيشه اليوم إلا أن «الأنظمة الشفوية لا تزال تفرض سلطتها وهذا الشعر ليس ببعيد عن الشعر الجاهلي الذي يتقاطع مع شعر العرضة فيما يلي: - التكرار والتقليد والصيغ الشعرية اللازمة. - الإنشاد والغناء - الجمهور المستمع وأحيانا لجنة تحكيم مثل النابغة الذبياني والخنساء وحسان بن ثابت والجوائز بعض الإبل والمال ولجنة تحكيم شعر العرضة من شعراء كبار سن والجوائز إما سيارة أو مبلغاً من المال. - الألحان – الأوزان - - بعض الأغراض الشعرية كالمدح والفخر والوصايا الأخلاقية. - العصا أو السبحة في يد الشعراء أثناء الإنشاد والغناء - مواجهة الناس في الميدان - الاعتماد على الذاكرة وسرعة البديهة من المؤكد وأنا أختم هذه السطور أن إجراء أي تعديل في أركان العرضة وطقوسها الفرائحية في جبال السراة، سوف يفقدها الهيبة والمتعة التي يسعى إليها الجمهور، كالاستغناء عن ارتداء الأزياء الخاصة بالعرضة واستبدال ساحة الميدان بالصالات المغلقة أو إلغاء الدفوف والأزيار والزلف وسواها، مما يميز هذا الفن الذي يضرب في عمق الثقافة الجبلية على امتداد جبال السراة في منطقة عسير جنوب غرب المملكة العربية السعودية. *شاعر وباحث في العلوم الإنسانية