شاعر وناقد يبني جسورا بين الشرق والغرب..

مشروع «زولي» الثقافي يتسع بكتاب الأسئلة الكبرى.

بين دفّتي كتابه الجديد «ما وراء الأغلفة؛ روائع القرن العشرين»، يقترح الشاعر والكاتب السعودي إبراهيم زولي رحلة قرائية لا تشبه غيرها، ينقّب فيها عن ثلاثين عملاً أدبياً وفكرياً شكلت ـ كما يصف ـ «أعمدة سردية وفكرية» لعصرٍ اهتزّ بالثورات والحروب والتحولات الكبرى. صدر الكتاب حديثاً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت، ويقع في 168 صفحة من القطع المتوسط، مستعرضاً أعمالاً أُنجزت خلال قرنٍ وُصف بأنه الأكثر اضطراباً وابتكاراً في آن. ما يقدّمه زولي ليس مجرد تلخيصات أو قراءات تقليدية، بل تأملات معمّقة في القيم والأفكار والأسئلة التي شكّلت وعي البشرية عبر هذه النصوص، متوقفًا عند خلفياتها التاريخية، وظلالها السياسية، وتفاعلاتها الثقافية. بين ماركيز وأورويل.. وفرويد ودي بوفوار ينتقل المؤلف برشاقة من «مئة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز إلى «1984» لجورج أورويل، ومن «المسخ» لفرانز كافكا إلى «الجنس الآخر» لسيمون دي بوفوار، ثم إلى «تفسير الأحلام» لفرويد، و»بدرو بارامو» لخوان رولفو، و»زوربا» لنيكوس كازنتزاكيس، وغيرها من الأعمال التي لا تزال أصداؤها تتردد في حاضرنا الثقافي والسياسي. ولم تخلُ القائمة من الأعمال العربية الجدلية، مثل «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، و»في الشعر الجاهلي» لطه حسين، و»الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق، و»زينب» لمحمد حسين هيكل، حيث يضيء زولي على جرأة هذه الكتب في مواجهة التابوهات الدينية والاجتماعية والفكرية، ودورها في دفع النقاشات الكبرى حول الهوية والحداثة والتحرر. نوافذ وجسور.. لا مجرد كتب يقدّم زولي هذه الأعمال بوصفها «نوافذ مفتوحة على عوالم مختلفة، وجسورًا بين الشرق والغرب»، حيث تمتزج الأسئلة الوجودية بأسئلة السلطة، وتتداخل قضايا الفرد مع مصائر المجتمعات، وتتصادم الأحلام مع الكوابيس التي خلّفتها الحروب والاستعمار وصعود الأيديولوجيات وسقوطها. في هذا السياق، تبدو كل قراءة في الكتاب بمثابة محاولة لفهم الإنسان من جديد، عبر أدبه وفكره، وما كتبه في لحظات التوتر أو الإلهام أو الانكسار. يقول زولي في مقدمة كتابه: «هذه الروائع ليست مجرد نصوص، بل شهادات على لحظات تاريخية حاسمة… شهادات تواصل طرح الأسئلة نفسها وإن اختلف الزمن والوجع». ويضيف: «القرن العشرون كان مختبرًا للأفكار، تفككت فيه الإمبراطوريات، وتبدّلت خرائط العالم، وصعدت الأيديولوجيات لتنهار… لذلك فقراءتنا لتلك الأعمال اليوم هي تأمل في جذور حاضرنا المتشظي». لوحة فسيفسائية للوعي الإنساني ببراعة المراقب وشفافية الشاعر، يصوغ زولي مقارباته عبر لغة رصينة لا تغرق في التنظير، بل تحتفظ بحرارة القارئ المندهش دائمًا، والمشتبك فكريًا مع النصوص. لقد جاء اختياره للأعمال متنوعًا جغرافيًا وثقافيًا، جامعًا بين أمريكا اللاتينية وروسيا ومصر وفرنسا والمكسيك واليونان، ليشكل ما يشبه «لوحة فسيفسائية» للإبداع الإنساني في أشدّ مراحله توتراً وإنتاجاً. ورغم أن المؤلف لا يدّعي تقديم قائمة نهائية بـ»أفضل كتب القرن»، فإنه يحرص على تنبيه القارئ إلى قيمة تلك الأعمال بوصفها محطات لفهم العالم، وأحيانًا لمساءلته بعمق. كما لا يخفي موقفه من «القراءة الكسولة» التي تكتفي بالشهرة أو الانبهار، داعيًا إلى القراءة النقدية المشتبكة مع المعنى، لا المطمئنة خلف الأسماء اللامعة. مشروع ثقافي يتجاوز الشعر يُعدّ هذا الكتاب إضافة نوعية إلى المشروع الثقافي الذي يعمل عليه زولي، شاعرًا وناقدًا ومثقفًا قارئًا للعالم. فبعد تجربته الشعرية، ومساهماته في الحقول الإبداعية المختلفة، يبدو هذا العمل محاولة لتأطير انشغاله القديم بالأسئلة الكبرى التي تطرحها الكتب على القارئ… لا إجابات، بل أسئلة جديدة تخرج من بين “الأغلفة” لتضيء المجهول. “ما وراء الأغلفة” ليس دليلاً للنخبة ولا سرداً نخبوياً؛ إنه كتاب لكل قارئ يبحث عن معنى، ولكل مهتمّ بقراءة العالم لا على سطحه، بل في أعماقه المتقلبة.