مبادرة هيئة الأدب تدخل عامها الخامس..

من المقاهي إلى المجتمع.. أي طريق سلكه الأدب؟

تعلن هيئة الأدب والنشر والترجمة في الأول من سبتمبر القادم عن أسماء الشركاء الأدبيين للنسخة الخامسة من مبادرة “الشريك الأدبي”، التي أطلقت مرحلتها الجديدة في 30 مايو الماضي، وينتهي التسجيل فيها في 18 أغسطس الجاري الذي حدد نهايته موعد اختتام مرحلة الفرز الأولي والترشيح. هذه المبادرة التي انطلقت في مارس 2021، حظيت منذ ذلك الحين بإشادة واسعة ونجحت في جذب جمهور واسع وإقامة آلاف الفعاليات، لكن هذا النجاح يثير تساؤلات جوهرية: هل يقود التركيز على الفضاءات غير الرسمية إلى تعزيز الثقافة العميقة أم إلى تسطيحها؟ وهل تعكس الأرقام الكبيرة حقيقة الأثر الثقافي أم تكتفي بإنجاز رقمي سريع الزوال؟ الزميل حمود أبوماجد، الصحافي والكاتب المستقل الذي عرف بمتابعته ونقده الجريء للحراك الثقافي المحلي، يسلط الضوء على الآثار السلبية المحتملة للمبادرة من زاوية مختلفة، مستخدمًا معايير لجنة المساعدة الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD-DAC) التي تقيس الملاءمة والاتساق والفعالية والكفاءة والتأثير والاستدامة. يهدف هذا المقال لتقييم الآثار السلبية لمبادرة «الشريك الأدبي»، وهي إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة التي تسعى حسب غاياتها المعلنة عند إطلاقها 2021م إلى بناء شراكات أدبية فاعلة تعزّز حضور الأدب في المجتمع، من خلال فعاليات ثقافية متنوعة تُقام في الأماكن التي يرتادها الجمهور بمختلف اهتماماته، لتجعل التجربة الثقافية أكثر قرباً وتفاعلاً مع القطاع الأدبي في المملكة، مما يسهم في رفع الوعي الثقافي العام، ودعم الإبداع المحلي، في بيئات مبتكرة تحتفي بالكلمة وتحتضن الحوار.على الرغم من نجاحها المزعوم في استقطاب الزوار لحضور فعاليات المبادرة، يُدقّق هذا التقرير تحديدًا في الآثار السلبية، لهذا النهج عند تقييمه وفقًا لمعايير لجنة المساعدة الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD-DAC) في تقييم النتائج النهائية للمبادرات والمشاريع الحكومية حسب العناصر التالية:(الملاءمة، والتناسق، والفعالية، والكفاءة، والتأثير، والاستدامة)،OECD-DAC Criteria (Relevance, Coherence, Effectiveness, Efficiency, Impact, and Sustainability).يكشف تحليلنا أن الإفراط في التركيز على الأنشطة الثقافية في المقاهي يُهدد بتقويض الثقافة العميقة، وإعاقة تطوير البنية التحتية الثقافية، وربما صناعة مشهد ثقافي سطحي. قد يُحوّل هذا أيضًا، دون قصد الموارد أو الاهتمام بعيدًا عن الحاجة المُلحّة لتعزيز وتحديث المؤسسات الثقافية المُتخصصة والمراكز الإبداعية، والتي تُعدّ الركائز الأساسية للتنمية الثقافية في المملكة. مقدمة: حظيت مبادرة «الشريك الأدبي» بإشادةٍ لنهجها المُبتكر في التواصل من خلال الاستفادة من القنوات الرقمية في نشر التغطيات والمتابعات للفعاليات الثقافية في المقاهي، ومع إقرار هذا المقال بإنجازاتها الكبيرة في مجال التسويق الرقمي، يركز هذا التقرير على تحديد وتحليل العواقب السلبية التي قد تُقوّض فيها المبادرة أهداف استراتجية التنمية الثقافية. المنهجية: يستند هذا التقييم إلى أربعة إجراءات جوهرية: • مراجعة نقدية لتصميم البرنامج وتنفيذه (Critical Review of Program Design & Implementation): دراسة القيود الكامنة في بيئات المقاهي لبعض الأنشطة الثقافية. • تحليل السياق (Contextual Analysis): إعادة التفكير في النطاق الشامل للمنظومة الثقافية بما في ذلك احتياجات وأدوار المؤسسات الثقافية القائمة والصناعات الإبداعية الناشئة. • التقييم المقارن (Comparative Assessment): الاستفادة من أفضل الممارسات الدولية في التنمية الثقافية، حيث يُعدّ التوازن بين المساحات الرسمية وغير الرسمية أمرًا أساسيًا في كثير من الأحيان. • تحديد تكاليف الفرص البديلة المحتملة (Identification of Potential Opportunity Costs): تحليل ما قد يُهمَل ضمنيًا أو يُفقد الأولوية بسبب التركيز المفرط على الفعاليات الثقافية في المقاهي. 1- الصلة (Relevance): هل حققت المبادرة النتائج المطلوبة؟ ضياع الأولويات: على الرغم من أهميتها البالغة لزيادة وصول الجمهور إلى الأنشطة الأدبية، إلا أن التركيز المفرط على فعاليات المقاهي قد يوحي ضمنيًا بأن الثقافة العميقة والتطوير الفني المهني هما أمران ثانويان. وقد يُضر هذا بالرؤية طويلة المدى لبناء منظومة متطورة ثقافيًا إذا تطغى الحاجة إلى التدريب المتخصص والبحث المتقدم والإنتاج الفني عالي الجودة، والتي غالبًا ما تتطلب بيئات مخصصة. نطاق محدود للممارسات الثقافية المتنوعة: صُممت مبادرة «الشريك الأدبي» خصيصًا للمحاضرات والأنشطة المنبرية، ورغم نجاحها في هذا المجال، إلا أنها قد تُرسخ، دون قصد، تصورًا بأن التنمية الثقافية الشاملة يمكن تحقيقها من خلال نماذج مماثلة، وتجاهل الاحتياجات البنيوية والمهنية للقطاعات الثقافية الأخرى (مثل الفنون الأدائية، والفنون البصرية، وحفظ التراث، والبحث الثقافي). 2- التناسق (Coherence): ما مدى ملاءمة المبادرة مع المنظومة الثقافية؟ عدم التناسق مع العمل المؤسسي: ينشأ هذا التنافر من إنجاز أنشطة مبادرة «الشريك الأدبي» بمعزل عن غيرها، أو حتى التنافس غير المقصود على الاهتمام والموارد مع المؤسسات الثقافية المتخصصة القائمة أو المخطط لها (مثل: الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، والمكتبات الوطنية، ودور النشر، والمراكز الثقافية، وفعاليات الجامعات الثقافية). إذا اعتُبرت أنشطة المقاهي الوسيلة الأساسية للتواصل الثقافي، فقد يُقلل ذلك من أهمية الأدوار الفريدة والضرورية لهذه الهيئات الرسمية في تنمية الإنتاج الثقافي، والأبحاث الأدبية والتدريب المتخصص. تشظي المنظومة: قد تؤدي هذه العشوائية وغياب التنسيق دون مسارات واضحة، ومشاركة المتطفلين والباحثين عن الأضواء إلى تشتيت الجمهور عن الفعاليات النوعية التي تنظمها المؤسسات الثقافية، وخسارة الموارد في تنظيم تجارب ثقافية مميزة، وابتعاد المبدعين عن الحاضنات لتطوير مواهبهم ونشر إصداراتهم الإبداعية، وهذا يؤثر سلبا على تطوير القطاعات الثقافية. «هجرة العقول» من المؤسسات الثقافية: إذا كانت الطريقة الوحيدة لمقابلة الجمهور تتطلب المشاركة في أنشطة المقاهي السطحية، فقد يؤدي ذلك إلى إحباط الموهوبين عن متابعة مسيرتهم المهنية داخل المؤسسات الثقافية الرسمية، مما قد يؤثر على تبادل الخبرات على المدى الطويل داخل هذه الكيانات الحيوية. 3- الفعالية (Effectiveness): هل أنجزت المبادرة أهدافها؟ التفاعل السطحي: مع زيادة عدد الفعاليات الثقافية والمشاركين فيها، تشجع بيئة المقهى غالبا بطبيعتها على التفاعل العابر والسريع. وبالتالي إلى فهم أو تقدير سطحي للأدب، بدلًا من التحليل النقدي أو ترقية الذائقة الأدبية. تأثير محدود على التطوير المهني: على الرغم من أن المقاهي توفر منصات للظهور، إلا أنها ليست مصممة لتكون حاضنات للمواهب والمبدعين، فهي عادةً ما تفتقر إلى البنية التحتية اللازمة لإقامات ورش العمل، والندوات المكثفة، وبرامج الإرشاد وموارد التدريب المتوفرة في المؤسسات الأدبية المتخصصة. وهذا يحد من فعالية المبادرة في تطوير الجيل القادم من الكُتّاب والنقاد والباحثين في مجالات الأدب والفنون. خطر «المقاييس الزائفة»: غالبًا ما يُقاس النجاح بعدد الفعاليات والمشاركين (على سبيل المثال، أكثر من 6,400 فعالية، وأكثر من 203,000 مستفيد). ورغم إيجابية هذه المقاييس (Vanity Metrics)، إلا أنها لا تعكس بدقة جودة التفاعل أو الأثر الحقيقي مما ينتج عن ذلك المبالغة في تضخيم نتائجها الوهمية وتأثيرها على الحراك الثقافي. 4- الكفاءة (Efficiency): ما مدى نجاح استثمار الموارد المالية؟ تكلفة الفرصة البديلة: في حين أن الاستفادة من المساحات المتوفرة في لمقاهي تبدو فعالةً للتواصل، إلا أن الجوائز المالية الكبيرة (مثل ٩٠٠ ألف ريال سعودي لأفضل المقاهي) والدعم المُقدم لها قد يُمثل تكلفة الفرصة البديلة (Opportunity Cost). يمكن لهذه الموارد، إذا خُصصت بشكل مختلف، أن تُحقق عوائد أكبر في مجالات مثل: الاستثمار في البنية التحتية الثقافية: تطوير المكتبات العامة، وتمويل الأندية الأدبية، أو إنشاء مراكز متخصصة للكتابة الإبداعية. دعم التفرغ الأدبي: توزيع منح للمؤلفين والمترجمين والنقاد لتكريس المزيد من الوقت لمهنتهم. مبادرات النشر عالية الجودة: دعم نشر الأعمال الأدبية المتنوعة والمثيرة للاهتمام والتي قد لا تحظى بقبول تجاري فوري عند الناشرين. خسارة الإنفاق: إذا قامت هيئة الأدب بتمويل أنشطة المقاهي دون استراتيجية موحدة، فقد يؤدي ذلك إلى هدر الموارد على فعاليات غير مثمرة لايحضرها إلا بضعة أشخاص من أصدقاء الضيف والمحاور. الرؤية طويلة الأجل مقابل الرؤية قصيرة الأجل: قد تُعطي طريقة التفكير البيروقراطية الكفاءة الأولوية للمخرجات قصيرة الأجل والواضحة (عدد الفعاليات) على الآثار طويلة الأجل الأقل وضوحًا ولكنها أكثر عمقًا (الإصدارات الأدبية والفكر النقدي)، مما قد يُضلّل توجيه الموارد بعيدًا عن الاستثمارات الجوهرية. 5- الأثر(Impact): ما الإنجاز الذي تحقق بفضل هذه المبادرة؟تهميش المؤسسة الثقافية الرسمية: إن الاعتماد المفرط على الأنشطة غير الرسمية المقامة في المقاهي قد يُضعف بشكل ملحوظ من أهمية المؤسسات الثقافية الرسمية وتأثيرها، و سوف يؤدي هذا إلى انخفاض التفاعل العام مع المتاحف والمكتبات الوطنية والبرامج الأدبية الأكاديمية ودعمها، وهي أمور بالغة الأهمية للحفاظ على التراث وتنمية المشهد الثقافي. «تسليع» الأدب: عندما تُقام الأنشطة الأدبية بشكل رئيسي في مقاهي تجارية، يكون هناك ضغط عليها لتحقيق الأرباح من زوراها المستهلكين، وينتج عن ذلك اختيارات مواضيع يغلب عليها الطابع الترفيهي، وتفضيل الأشكال الشائعة أو التقليدية على الأشكال التجريبية، مما يُشكل تسليعا للمحتوى الثقافي. غياب التأثير على تطوير السياسات الثقافية: إذا أصبحت مبادرة «الشريك الأدبي» هي النموذج السائد، فقد يُقلل ذلك من زخم تطوير سياسات ثقافية وطنية شاملة تُغطي جوانب أوسع من الإنتاج الثقافي وتوزيعه وحفظه، بما يتجاوز المشاركة المجتمعية غير الرسمية. احتمالية الإقصاء (غير ملحوظة): على الرغم من أن المقاهي الحديثة تهدف إلى سهولة الوصول، إلا أن البيئة الاجتماعية الخاصة بها، وخاصة في المناطق الحضرية، ربما تُقصي شرائح معينة من السكان (مثل كبار السن أو ذوي الحركة المحدودة، أو الأفراد من الطبقة الكادحة الذين لا يرتادون هذه الأماكن). 6- الاستدامة: هل ستستمر هذه المبادرة بدون دعم مالي من الهيئة؟ هشاشة الاستدامة: في حال توقف الدعم المالي والحوافز للمقاهي أو تخفيضها بشكل كبير، فقد تتعرض استدامة الفعاليات الأدبية في المقاهي للخطر، لأن عملها الأساسي هو الضيافة، وليس تنظيم البرامج الثقافية، وهذا يجعل المبادرة تعتمد على التمويل المستمر من الهيئة. ضعف المرونة المؤسسية: على عكس المؤسسات الراسخة ذات الذاكرة المؤسسية والأوقاف والموظفين المتفانين والخطط الاستراتيجية طويلة الأجل، تفتقر الأنشطة الثقافية في المقاهي بطبيعتها إلى المرونة المؤسسية (Resilience) اللازمة لمواجهة التحولات الاقتصادية، أو التغيرات في توجهات السياسات الثقافية. خطر «الموضة»: على الرغم من شعبيتها حاليًا، إلا أن الاتجاهات الثقافية قابلة للتغير، إن الاعتماد المفرط على نموذج المقهى يُخاطر بأن تصبح المبادرة «موضة عابرة» إذا ما غاب الدعم أو ظهرت أماكن ترفيهية جديدة، مما يؤدي إلى تراجع المشاركة في هذه الأنشطة من جانب الجيل الجديد. عدوى «التسطيح»: تفتقد الأنشطة المؤقتة داخل المقاهي التجارية إلى متخصصين في تنظيم الفعاليات الثقافية، واستقطاب الأسماء البارزة في الساحة الثقافية بسبب تواضع إمكانياتها وجهل القائمين عليها، ربما تساهم هذه المبادرة في نشر التسطيح وانتقاله إلى بيوت الثقافة، وهذا خطر قائم على ازدهار هذه المنشآت على المدى الطويل وترسيخ مكانتها في الساحة الثقافية. ٥. الخاتمة والتوصيات: يكشف هذه التقييم النقدي عن آثار سلبية كبيرة، تتمحور في المقام الأول حول مخاطر السطحية، ونقص الاستثمار في البنية التحتية الثقافية الأساسية، وغياب أصحاب الخبرة عن إدارة المبادرات والمشاريع الثقافية. للتخفيف من هذه الآثار السلبية وضمان مستقبل ثقافي مستدام. نقترح التوصيات التالية: إعادة توازن الاستثمار: مع مواصلة دعم مبادرات المقاهي نظرًا لسهولة الوصول إليها، يجب زيادة الاستثمار الاستراتيجي بشكل كبير في المؤسسات الثقافية المتخصصة (المكتبات الوطنية، والمتاحف، والمسارح، والأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون)، تلك ضرورة قصوى للتنمية الثقافية ودعم الاحترافية في تنظيم الفعاليات الثقافية. منح الأولوية لمؤشرات الجودة: تقييم الأنشطة بمعايير نوعية وليس أعداد المشاركين فقط، مثل: اكتساب مهارات التفكير النقدي وعدد الإصدارات الإبداعية، والحصول على الجوائز الأدبية.مسارات التطوير المهني: تعزيز التعاون بين مبادرة «الشريك الأدبي» والمؤسسات الثقافية، وجدير بالذكر أن فكرة تأسيس مقهى ثقافي كانت إحدى الأفكار المقترحة التي طرحها الأديب الراحل محمد العيد الخطراوي في مقال منشور في إحدى الصحف العام 2000م لبناء جسور التواصل بين الشباب والمخضرمين، ونقترح بناء الشراكة مع مراكز ثقافية مثل: مركز إثراء وحي جميل للفنون، وجمعيات الثقافة والفنون والأندية الأدبية، يشمل ذلك تخصيص موارد لتنظيم برامج التطوير الإبداعي للكتاب والنقاد ورواد الأعمال أصحاب الشركات الناشئة في القطاعات الثقافية، مع الأخذ في الاعتبار أن المقاهي تُمثل في المقام الأول منصات للتعريف، وليست أماكن تدريب شاملة.تنويع التمويل الثقافي: التوجه نحو نموذج تمويل ثقافي أكثر تنوعًا يدعم مختلف جوانب المنظومة الثقافية بدءًا من المبادرات المجتمعية وصولًا إلى الأبحاث الأكاديمية ونشر الكتب.من خلال معالجة هذه الآثار السلبية، يمكن أن تساهم مبادرة «الشريك الأدبي» بشكل إيجابي في بناء مشهد ثقافي حيوي ومستدام، بما يتوافق تمامًا مع الأهداف الطموحة لرؤية 2030. *صحافي وكاتب سعودي مستقل.