عبد الرحمن الدرعان: ناسك الحكاية وحارس الجمال.

في فضاء السرد السعودي الذي يتسع ويتجدد، وتتماوج فيه التجارب الأدبية وتتعدد الأصوات الإبداعية، يبرز اسم عبد الرحمن الدرعان كصوت سردي أصيل، يمتلك جذوراً عميقة ضاربة في تراب الوطن، وأجنحة فكرية وجمالية ممتدة في فضاء المخيلة الإنسانية الرحب. إنه قاصٌ فريد، لم يأتِ لمجرد شغل مساحة، بل نحت اسمه ببراعة في سجل القصة القصيرة السعودية المعاصرة، وذلك من خلال لغته الشاعرية المتفردة، وإيمانه العميق بقدسية الكلمة وقدرتها على تجسيد العوالم الخفية. ليس حضوره مجرد إضافة عددية إلى المشهد الثقافي، بل هو صوت متفرّد بامتياز، تنساب لغته العذبة الفاتنة بعيداً عن الرتابة والتقليد، نحو آفاق تنبض بجماليات السرد المحكم وصدق التجربة الإنسانية العميقة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان. جاءت بدايته الأدبية اللافتة مع مجموعته القصصية «نصوص الطين» عام 1989، لتشكل إعلاناً مبكّراً وواضحاً عن موهبة أدبية واعدة تكتب بوعي عالٍ ومسؤولية كبيرة تجاه الفن والواقع. لم تكن تلك الومضة مجرد جذوة طارئة عابرة، بل استمرت وتعمّقت وتجذرت مع صدور مجموعته «رائحة الطفولة» في عام 2000، لتؤكّد نضج قلمه المتميز وتجذر رؤيته الفنية والفكرية. قصصه ليست مجرّد حكايات بسيطة تُروى للتسلية، بل هي ملاذات إنسانية آمنة تحتضن المتلقي، وتدعوه إلى التأمل في الحياة وجمالياتها. فالكتابة عنده، كما يصرّح الدرعان بنفسه في أكثر من مناسبة، هي «عزائي وحياتي السرية التي ألجأ إليها هرباً من إكراهات الحياة وزيفها وقبحها ونقصانها». هذه العبارة العميقة تختزل فلسفة الكتابة لديه بوصفها ملاذا نبيلاً من ضجيج الواقع وصخبه، وبحثًا دائمًا عن الجمال والحقيقة الكامنة في تفاصيل الحياة اليومية البسيطة التي يمر بها معظمنا دون أن نلحظها. ويعزو الدرعان ارتباطه العميق والوثيق بالكلمة المقروءة والمكتوبة إلى «حظه الجميل» كما يصفه، بأنه نشأ وترعرع في بيت كان فيه الكتاب فرداً أصيلاً من أفراد العائلة. هذه البيئة الغنية بالحراك الفكري، والمغمورة بالمعرفة والقراءة المستمرة، شكّلت الوعي المبكر لديه، وكانت التربة الخصبة الأولى التي أنبتت موهبة ظلت تنمو وتتطور حتى أثمرت نصوصًا أدبية تفيض بالتأمل العميق والصدق الفني، وتلامس وجدان القارئ. هذا التنشئة الفريدة أثرت بشكل مباشر في رؤيته للعالم، وجعلت من الكتابة لديه ممارسة أصيلة وضرورة وجودية. وإذا كان هذا الملف الثقافي يحتفي بمنجزه الأدبي الكبير ومسيرته الإبداعية، فإن للدرعان رأيًا خاصًا به ومميزًا في مفهوم «التكريم». فهو يصفه في لقاء معه، بأنه ذو «بعد جنائزي»، وكأنه يمثل نهاية أو ختام لمسيرة الكاتب. بيد أنه يعيد تعريف التكريم على طريقته الخاصة والمبتكرة، بكلمة واحدة ذات معنى عميق: «الوفاء». إنه الوفاء للجهد الهادئ الذي يبذله الكاتب في الظل، للغة الشفيفة التي تنسج الجمال، للرؤية العميقة التي تخترق السطوح، وللعطاء الذي يُنسَج في الظل ليضيء مساحات الثقافة بهدوء وسكينة، دون أن يطلب الأضواء المفتعلة أو الضجيج المصطنع. إن عبد الرحمن الدرعان ليس مجرد اسم يُضاف إلى قائمة المبدعين في الأدب السعودي، بل هو كاتب يضيء نصوصه بوهج التجربة الإنسانية الثرية وشفافية الرؤية الفنية، والاحتفاء به ليس مجرد طقس مجاملة عابرة، وإنما هو استجابة حقيقية لنداء الأدب الصادق، ووفاء لصوت يكتب بحسّ إنساني عميق ومُرهف، بعيدًا عن الزيف والتكلف المصطنع، وقريبًا جدًا من جوهر الحياة النابض ومتعة الإبداع الحقيقي الذي يترك أثره الخالد.