نسّاجُ الحكاياتِ.. البساطة والعمق.

في شهادةٍ لم تُنشَر بعنوان «في البدء كان الإصغاء.. في البدء كانت القراءة»، أشرتُ في فاصلةٍ منها إلى فترة الثمانينيات.. وإلى علاقتي بالكتاب وبالأصدقاء من خلال البريد؛ نافذة الهواء الثقافي الذي لم يكن بالقُرب وقتذاك كما هو الآن: «في تلك الأيام كان صندوقُ البريد مرسايَ ورَجُلُ البريد هلالَ عيدي: الثقافي». ومن أجمل ما مرّ بي من بريد تلك الفترة، ومن أجمل مفاجآتها، أيضاً، أن تصل رسالة من أقصى الشمال من مدينة سكاكا بالجوف إلى أقصى الشرق إلى قريتي الجشة في الأحساء. أجمل المفاجآت أن تحطّ حمامةٌ بيضاء تتزيّن بخطٍّ جميل لـ عبدالرحمن الدرعان الذي أعرفه قاصاً دانياً من ذائقتي، وربما هذا المشترك الجيلي والثقافي، وذلك العطش إلى الأشباه الإبداعيين هو الذي يسّرَ التواصلَ واستمراره. أحببتُ «بومازن/ عبدالرحمن الدرعان» كاتباً وصديقاً، وإنساناً متفرّداً في خصاله قبل ذلك وبعد ذلك. كان البريد صِلتنا لسنوات. نتبادل النصوص والقراءات والآراء والنفثات الثقافية. عبدالرحمن كاتب رسائل أعدّها تحفة جمالية؛ تشكيلاً خطيّاً ومحتوى يفيض بالينابيع. عبر البريد، المسافةُ طُويِتْ وحلَّ القُرب والجوار. وفي شهر نوفمبر من العام 2008، إبّان رئاسة الصديق الدرعان لنادي الجوف الأدبي، شُرِع في تنفيذ برنامج «ملتقى الجهات» وهو فكرة رائدة أخذَها صديقنا الدرعان إلى التحقق؛ باستضافة أدبي الجوف لعدّة أيام، مجموعة من مثقّفي إحدى المناطق في السعودية يعرضون إبداعهم ونتاج المنطقة الثقافي. وكانت التجربة الأولى استضافة مثقفين من المنطقة الشرقية (فيهم: الشاعرو القاص والمسرحي والفنان التشكيلي)، ومن حسن حظّي أني كنتُ واحداً منهم، أتشوّق إلى زيارة منطقة الجوف والتعرف على تاريخ وآثار المنطقة، وتجديد القرب مع الصديقين: بومازن عبدالرحمن الدرعان، وبورعد زياد السالم. والتعرّف على أصدقاء جُدد ما تزال أسماؤهم تعمر بها الذاكرة، حيث جمعتْنا سهراتُ باحة فندق «النُّزُل» المشاد على الطراز الأندلسي في ليالٍ لا تُنسى بأحاديث ذات شجونٍ وشُعَب تنتقل من الشعر إلى الرواية إلى النقد إلى المسرح إلى حياتنا الثقافية في الأندية الأدبية التي كان بعضها في وقدة نشاطها. ثلاث ليال في الجوف كانت ذخيرة باقية وممتدّة، ولعلها مع صلة الصداقة العميقة تجدّدت في معرض كتاب الرياض الذي نرتاده سنوياً، فنُلْفِي أنفسَنا في أجمل اللقاءات قبل لقاء الكتب. في جلساتنا الليلية خلال أيام معرض كتاب الرياض، كان الحديثُ مع الصديق الدرعان (ومعنا دائماً الصديق الشاعر البارز: زياد السالم) مِن أنفسِ المقتنيات التي يعود بها المرء من هناك. فعبدالرحمن لمن لا يعرفه ولمن لم يستمع إليه سيّد الحكاية يخلب بها اللبَّ والسمع، ينتقيها من جاري الأحداث اليومية أو من دفتر التاريخ المحلي أو يجذبها من مجرى التاريخ. ودائماً أجدُ حكاية مبهجة عند عبدالرحمن ننسى بها تقدّم الليل ونطلب معها مزيداً من الشاي. وهذا الفن الذي يبرّز فيه صديقنا الدرعان -فن الحكاية- هو ما ينزله مكانةً رفيعة في مدوّنة السرد في بلادنا. صحيح أن إنتاجه شحيح وأكاد أصفه بالبخل، وأصف عبدالرحمن بالكسل، إذْ على مدى سيرته الثقافية لم يطبع إلا كتابين نالَت أحدهما نارُ التوحيدي. غير أن ذلك الحضور القليل في العدد يتبدّى مكتنزاً في القيمة الإبداعية وفي الصمود أمام معايير السرد. كتابة الدرعان تأتي ضمن الجمال النادر الذي يقتنص اللحظة الجمالية، وينسج خطوطها بالوصف الدقيق وببناء الشخصيات بأبعادها الظليّة.. وبتلك اللغة البسيطة المكثّفة وبشعريّتها العالية؛ لا تخطئها العين المدربة ولا تميل عنها الذائقةُ الحصيفة. بين وقتٍ وآخر، يُفرِج صديقنا الدرعان عن نصٍّ من نصوصه، وقد قرأتُ واحداً منها بفرحٍ غامر وبحسٍّ شخصي يفيض بالنوستالجيا. النص الذي قرأته هو «البكماء» منشور في مجلة: (الجوبة - العدد 60)، وحالَ فراغي من قراءتها دوّنتُ له انطباعي عن شخصية البكماء البديعة، في رسالة واتساب: *** }غيمةٌ ثمانينية لفّتني في أعطافها وأضاءتْني وأمطرتْني بـ «البكماء» التي جعلتَها، صديقي عبدالرحمن، تمسكُ بناصية الكلام على نحوٍ مدهش وشديدِ البلاغة وغزيرِ التبليغ - إن جازَ التعبير - وبالغ البساطة. وهذا هو مربط الجَمال: «البساطة» تجري في الحدث الملموم والمركّز، والمُغَشّى في البداية والنهاية متروكاً للحدس وللاستشفاف، وتلك اللغة الطازجة تطلع بين يدَي فلاح أو خباز ؛ عرفا الأرض وخبرا العجين؛ تلطّختْ منهما اليدان - ودون حائل - بمعنى الحياة؛ إنباتاً واستواءً. ولا عجب أن هذا «الدَّرْز» باللغة أتى مساوقاً لدرسٍ/ درْزٍ آخر هو الترجمة التي تمرُّ هَوْناً وبلا تعسّف وفي معادل جمالي باهر. قصدتُ الماكينة التي أودعتْها البكماء كلّ التفاصيل والتعبيرات والانفعالات والحالات الاجتماعية في بعدها الفردي العائلي أو في بعدٍ أكبر وأشمل؛ فكانت اللسان.. الصوت الذي تحدّث أكثر من الجميع وأحاط بالملامح والأسرار الغائبة عن كل ذي لسان، وحمَلَ عبء الحياة الذي عجزت البكماء عن قوله أو التعبير عنه. كما حملت جَمال تلك الحياة أيضا: «كانت آلة الخياطة لها الذاكرة والصديقة وحصّالة النقود وبيت الأسرار وصندوق الأغاني وعربة الزهور ومنبّه الصلاة». بمعنى أن هناك أكثر من مستوى تعبيري انطوتْ عليه تلك الماكينة.. تلك البؤرة التي تمرّ منها البكماء إلى حياتها وإلى العالم. وربما تكون الحياة بالنسبة لها متوقفة وبلا معنى وخالية من الرسائل؛ مبعوثةً ومُستلَمةً.. ولن أخطئ إذا ما قلتُ إنها الحياة/ الموت، أو هي «الموت» وحسب، ولا أدلّ على ذلك من هذا السطر الشاهق الذي يلتمع في النص التماعَ الجوهرة، حيث السكون والموَات والاحتباس والعجز عن «ترجمة الإيماءات» ثم ذلك التدفّق وشهقة الحياة العالية تنفر من الماكينة ومن قماشها: «... وبيدها الأخرى تكسر حواشي القماش المتجعّد كموجةٍ متجمّدة دبّتْ للتو فيها روحُ البحر{«. *** وبالعودة إلى لقاءاتي بالصديق بومازن في الرياض، كنتُ كل لقاء أحرص على تذكيره بالالتفات إلى شتات نصوصه السردية قصيرها وطويلها، وعلى أن يجعل لكتابته هدنة مع الكسل؛ إقلاعاً قصيراً حميداً، وسفراً دون توقّف ولا تسويف إلى باب المطبعة. شخصياً، ومعي كُثر يعرفون قيمة الدرعان الإبداعية، مشغوفون إلى كتاب جديدٍ منه: عبدالرحمن! لا تبخلْ علينا.