(الجوف) الإنسان والمكان .. في ذاكرة عبدالرحمن الدرعان.

من هُنا ابتدأت الحكاية، من (الجوف) الممتد بالتراب البِكر والنخيل والزيتون والأغنيات، من المساحات المدنفة بالتاريخ والقصائد وعراقة التراث والحكايات. هُنا شمال القلب والذاكرة مضى أديبنا عبدالرحمن الدرعان يتلمّس فرادة الاتساع والحديث الصامت في جذوع الإثل، ويبتكر من الحُب المخبوء في العيون اليانعة أفكاراً وأشعارا. كل شيء هنا يتحدث بلغة من ضوء يستلهمها الشعراء ليكتبوا أسفارهم الخالدة للعابرين والعشاق والمُدنفين بحكايا الشمس والمطر. الدرعان الذي أرخى وثاق القصيد من يديه فانطلق بعيداً ليرسم الحكايات المتسعة بلغة شاعرة آسرة تمضي بعيداً إلى سماوات لا تعرفُ حدود القوافي. وهذا قدر الأدباء، إنهم يُخلقون بأفئدة تُدرك الأشياء والأحداث على غير ما اعتاده الناس ، لذا كانت كلمات البسطاء من حوله ، النخيل الهزيل ، الطرقات الترابية والبرسيم، شجار الأقران، خفَرُ الصبايا، الوجوه المُتوارية، الأكف الخشنة القابضة على إيقاع السواني، صوت أبيه البعيد، الوجوم في وجوه المارّين، حصن «زعبل» الممتد كأسطورة نبطية قديمة، والعوالم البعيدة التي سمع عنها فتطاولت في ذهنه أفكاراً وأسوارا، كل تلك التفاصيل رسمت عالماً مُتسعاً و ضجيجاً إنسانياً خصباً في ذهن و وجدان الدرعان. لقد صنع الدرعان من بيئته الصغيرة مسرحاً شاسعاً للجمال الذي أحبّه أو تخيّله، والأفكار التي اقترفها، والمُسلّمات التي تجاوزها، والقصائد التي أصبحت قدره الذي فرّ منه. هذا المسرح الضخم فكرةً ولغةً كان نقطة تحوّل فارقة في مسيرة القصة القصيرة، إن هذا الصوت الهادر من شمال الوجدان كان مُختلفاً للحد الذي رسم معه بداية مُثيرة وجديرة، بداية أرّخَ معها ملامح القصة القصيرة النوعية في المملكة العربية السعودية. لقد صنع بحسّه الرهيف وذهنه المتقد من التفاصيل العابرة والمحدودة حكايات تلامس العمق الإنساني وتبوح بجسارة عن مكنونات واقترافات وانكسارات الإنسان بلا مواربة، لقد أسرج الدرعان صوت الإنسان الكوني بلغة عالية ووجدان صادق ورؤية مرهفة ثاقبة فكان رائداً للكلمة والفكرة والأدب. لقد حاز الدرعان على ريادة القصة القصيرة كقدرٍ فرَّ منه، كالشعر الذي أرخى الدرعان وثاقهُ فأصبح أرضه ونبضه. ولعل هذا القدر رافق أديبنا الدرعان لثلاثة أمور: ١/ قدرته الذهنية واللغوية العالية على تحويل التفاصيل والمواقف الصغيرة إلى حكايا بعيدة المرامي والتجليات بلغة خصبة ذات معانٍ ودلالات، وهنا تتجلى ذات وذهنية الأديب الذي يتلمّس ويدرك ويشعر أدق وأعمق الخبايا ليرسلها غيماً ماطراً أو عابرا. فهو الذي يصف شعور أحد أبطاله: (دثرتني بعباءتها وشممتُ رائحة البرسيم تفوح من ثيابها فانفتحت لي سماء ملبدة بالعصافير). ٢/ التصالح العميق مع الإنسان داخله وحوله فهو الذي يُفضحُ أبطاله في (رائحة الطفولة) و يعرضُ هشاشتهم ومخاوفهم وانكساراتهم و قسوتهم وضعفهم ، لكنه يعود ليتعاطف معهم و يُحيل كل ذلك للمحيط والتنشئة والمجتمع و يبرّىء ساحة شخوصه بل يجعل منهم ضحايا يستحقون التعويض والتقدير. إنه يتصالح دائماً مع الشقاء والنقاء الإنساني، ويرسمه بريشه صادقة وواثقة. فها هو يقول على لسان «عليان» أحد أبطاله (أنت ابن القرية تخاف من الأبواب التي تنفتح من تلقاء نفسها في الفنادق الكبيرة، تتلفت كثيراً توقعاً للمباغتة كأن أحداً يتبع خطواتك). ٣/ ارتباطه الوثيق والعميق بالميلاد إنساناً ومكاناً، الدرعان لم يسعَ للحديث عن مسقط رأسه (منطقة الجوف) لكنهُ تمثّلها بعفوية وصدق، فمكان وإنسان الجوف هما المسرح والقضية في كل مرة، هذا المكان هو الرمز البِكر لكل الأمكنة، وهذا الإنسان هو الروح المثال لكل الأرواح. الاستغراق الصادق في الذات، كان سبيلاً لأبعد الآفاق، وهنا تتجلى شفافية وصدق الأديب الذي يختار في كل مرة أن يكون هو بلا زيف ودون أقنعة ليكون هو كل الناس وفي كل البقاع. أديبنا عبدالرحمن الدرعان، أصرّ على أن يكون الإنسان، وأسرج بحصافة الأديب كل وجوه هذا الإنسان و رؤاه وشعوره و سطوة حضوره، بلغةٍ مضيئة متجاوزاً فيها الاتّساق و الأنساق، فأصبح الأديب والقاص والفنّان. *كاتبة وشاعرة- الجوف