
يصنع عبدالرحمن الدرعان قصصًا مكتملة بأسطر قليلة، باعتماد أسلوب بديع لا يخلو من إسقاطات وتناصّ واختزال، مما يكسب نصوصه جمالية أدبية، ورؤية فنية، وعمقًا دلاليًا. يستطيع قارئ قصص الدرعان إعادة تشكيل الجمل وصياغة قصص أخرى منها، إذ تُعد قابلة للاختزال والتكثيف بفعل صورها الحياتية الحية. يعاني أبطال الدرعان من خيبات ومرارات، ويحتاجون باستمرار إلى حماية وأمن وأمل. يتطلعون إلى مجتمع قوي يقيهم ما يكابدونه من أجل العيش، وهذا ما يوضحه الكاتب عبر توظيفه التبغ «الدخان» بشكل ملحوظ، وكأنه إشارة إلى حياة اللامبالاة التي يعيشها. إذ يقول ص٧: عبدالسلام في بداية حديثه: «رجعت إلى البيت متسخًا ومريضًا وجاهزًا للهزيمة. رجعت واهنًا ومريضًا، ولو فكر لعابي أن يسيل في هذه اللحظة لما استطعت أن أتحكم به أبدًا.» هل هناك استسلام أكثر من هذا؟ من يقرأ نصوص الطين سيكتشف أنها كتبت في ذروة الصراع بين الحداثيين والصحويين، بين الحياة والموت، بين المستقبل والماضي، بين الساكن والمتحرك. صراع الثنائيات الذي لم ينتهِ ولن ينتهي، لأن الدوران هو الغاية. برع الدرعان باستخدام أدواته، ووظف التناصّ بشكل مذهل ليكشف حقيقة خصمه من خلال ما يفترض أنه يؤمن به. فما كان التناص مع بعض الآيات القرآنية عبثًا، بل أسلوبًا مقصودًا. فالخصم كان يتكئ على بعض الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة المنزوعة من سياقها ليهاجم خصومه ويقنع المجتمع أن هؤلاء كفار يريدون أن يخرجوكم من ملتكم. وعن هذا الصراع المحتدم، يكتب الدكتور صالح زياد في دراسته المهمة عن كتاب الدكتور علوي الهاشمي (ظاهرة شعراء الظل في المملكة العربية السعودية)، إذ يقول: «لكن الحرب على أدباء الحداثة وفكرها النقدي تصاعدت بتصاعد تيار الصحوة منذ منتصف الثمانينيات الميلادية، حتى وصلت المجابهة معها إلى الذروة في منعطف التسعينيات، حين استخدم خصوم الحداثة منابر المساجد ووسائل الوعظ الديني الشائعة آنذاك، من أشرطة التسجيل والمنشورات، إضافة إلى استعداء الدولة عليهم ومؤسستها الدينية الرسمية، من أجل تخوينهم، والطعن في ضمائرهم، وتشويههم اجتماعيًا، والنيل من وظائفهم ومراكزهم العلمية. فلزم بعض الشعراء والنقاد الصمت، وضاقت ببعضهم جهات عملهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وبدأت الساحة تترقب تحولات مختلفة، وسادها غير قليل من الحذر والجمود.» صدرت نصوص الطين عن المركز العربي لتوزيع المطبوعات - بيروت 1989م، يتصدرها إهداء جميل: (إلى شقيقي «عبدالله»... وأطفال العالم)، وكأنه منذ البداية يحيطنا علمًا أنها نصوص المستقبل، الحوار، الأسئلة، الشك، التفكير خارج الصندوق، التأمل. فمن البداية يوضح لنا حقيقة خصمه، إذ يقول ص٧: «لا أدري، وقد كنت دخلت على هذا النحو، وكان الماعز اليومي يتقدم في الفراغات ويحثو الرمل الأسود في خانة هذا اليوم - الجمعة، الجمعة الأخيرة في شهر صفر. وأما لماذا الجمعة وليس أي يوم آخر، فهذا شأن بطل القصة الذي يكره الأسئلة، ويرغب في أن يستمر في كلامه كما يلي: أغلقت الباب ثم أسندت ظهري إليه كأني لن أخرج ثانيةً.» هنا إشارة واضحة منذ البداية: الخصم يرفض الحوار ويملك القوة، قوة المنبر التي تحرك الشارع ويسمعها وهو مغمض العينين والآذان مع الأسف. وليس أمامك طريق آخر: إما التوبة والعودة إلى طريق الحق الذي يدعيه خصمك، أو الاستسلام والصمت، وهذا ما رفضه بطل القصة. الدرعان، من خلال هذه المجموعة التي تتكون من اثنتي عشرة قصة، وهم حسب الترتيب: حديث عبدالسلام القروي، القرين، الاختزال، سير طويل لبطل صغير، نصف رجل، الرؤيا، إبراهيم العساف، الخلند، الظل، الوجه، مسخ، سقط سهوًا من حديث عبدالسلام القروي. في اثنتين وثمانين صفحة، قال ما لم تقله رواية من خمسمائة صفحة. تميز الدرعان في نصوص الطين بقراءته لطرف الآخر الذي يود الحوار معه، فهمه له، والدخول عليه بحججه نفسها التي ساقها ليخطف الشارع والمجتمع ويقلبه عليه. وهذا ما يبرر لجوئه للتناصّ مع بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي يدعي الطرف الآخر أنه وحده من يملك حقيقة فهمها ويرفض أي شرح مخالف. قصص لو أدركت الوقت الذي كتبت فيه، لعرفت أن صاحبها بطل حقيقي ومثقف يعي تمامًا دوره، فلا يستكين، ويواصل السباحة ضد التيار الذي يجرف المجتمع إلى الهاوية، هاوية كان صداها مدويًا على المجتمعات منذ بداية الثمانينيات إلى مطلع الألفية الثانية. سأبدأ معكم من القصة الأولى «حديث عبدالسلام القروي». من عنوان القصة يبدو أن عبدالسلام إنسان بسيط، مؤمن، قلق، يلحّ على كثير من المسائل. ربما لم يكن حداثيًا ولم يسمع بالحداثة. الحيرة والشك صفتان يختص بهما الإنسان، مقلقتان لبعض المبرمجين تلقائيًا نحو أفكار ومفاهيم منغلقة على نفسها، ولديهم أوهام بالحقيقة المطلقة، الحقيقة التي لا يمكن أن يمتلكها أحد. يخافون من أي فكر جديد، يغشون الحوار، يخافون أن يفقدوا مكانتهم الاجتماعية وسيطرتهم على المجتمع، لذلك لا تهاون مع من يخالفهم الرأي ولا نقاش، الهجوم خير وسيلة للدفاع. وهذا ما حدث مع عبدالسلام، إذ يقول: «كان الألم يشتد عليّ أكثر من ذي قبل، أو هذا ما يبدو لي الآن على الأقل. والعالم بكامل مخلوقاته يشتد ويضغط عليّ، وأنا بينهما كحرف ثاء ضاع، ولم يبقَ منه سوى نقطة واحدة آيلة للذهول.. وها إنني أتخثر، والمرض والهواجس يفتكان بصحتي يومًا بعد يوم، والأطباء المناوبون لا يفتأون يتسلون بتقديم النصائح لي. أعرف أني أدفع عن صدورهم طاولات الليالي الطويلة، حيث لا يجدون وليًا ولا نصيرًا ولا مرضى آخرين يسهرون معهم بدون فائدة إلا أنا. ولكن هذا ما يحدث. هذا والله هو ما يحدث.» لو تأملنا بعض العبارات الواردة في هذه القطعة من النص، لعرفنا هول الهجوم الذي لقاه عبدالسلام: «وأنا بينهما كحرف ثاء ضاع»، «سوى نقطة واحدة آيلة للذهول». ولم يقل السقوط لأنه لم يسقط، ولكن أصابه ذهول. لم يتوقع كل ذلك الهجوم بمجرد أن قال: ماذا وكيف؟ «وليًا ولا نصيرًا»، يعني لا مجال أمامك إلا التوبة كمن سبقك من المرضى. هذا ما يحدث، هذا والله هو ما يحدث. أسلوب الخصم لا يملك حججًا مقنعة، فيعود للحلف بالله ليصدقه من لم يتعب نفسه بالتفكير. ونحن نواصل القراءة سنجد الحلف بالله في مواضع كثيرة من المجموعة القصصية، وكأنه تأكيد أو تذكير بأساليب خصمه، بضعفه، بخوفه، بقلقه من أن يفرّ كل شيء من يده. هو مؤمن لا يشك أحد في إيمانه، لذلك يحلف صادقًا؟ هذا الإيمان الذي خدر المجتمع لسنوات وأفقده الأمل والطموح، ليرمي كل شيء على القدر، إذ يقول ص٨: «هل سمعت عن نعمة الخيال؟! أنا رجل بلا حظ وبلا أمل، قلت لنفسي وزفرت. كان نبضي سخيًا كما لو دزينة أظلاف تتناوب الدق على صدري.» ويقول ص9: «غير أني هذه المرة أريد أن أصرخ، فلم يكن هذا بالأمر المستطاع. (ألم أقل لكم ذات حزن: إن القضاء والقدر لي بالمرصاد؟!!) إنني لا أطلب شيئًا أكثر من أن أصرخ يا ناس، لكنني لم أستطع.. وإذا فكرت بذلك وبخت نفسي توبيخًا شديدًا، لأنني بلا أهمية. واقتنعت إلى حد ما أنني على حق، وأنه ليست هناك أية وجاهة في استدعاء أحد المسلمين الذين يقطعون الشارع ليعمل ممرضًا عندي، ويجب أن أتوكل على الله وأذهب إلى غرفة لأموت بهدوء، فهذا شأني وحدي.» وسنرى ماذا يحدث لهذا المجتمع المؤمن، إذ تتكاثر اللصوص عليه، ويزداد الفقر، وتزداد ثروات بعض المنتفعين، ومنهم بالطبع بعض أهل المنابر. ونقرأ في ص10 هذه الفقرة التي تصف الحال بمنتهى السخرية، إذ يقول: «دخلت في الممر النصف مضاء.. قاطعني فأر ينزل من الدرجات القليلة باتجاه الخارج.. يتشمم البلاط الرطب.. ويتنقل في المكان بهدوء منقطع النظير.. تابعته: يرقص ذيله.. يدنو.. يدنو من قدمي الثقيلة.. يهرشها ثم ينصرف.. لم يعد نزقًا، فالقطط أصبحت تأكل المكرونة وتشرب (الكابتشينو)، وتقضي حاجتها في دورات المياه، وتدخن السيكار، وتفتح حسابات ضخمة في البنوك.» ولو أكملنا قراءة المقطع لتوقفنا عند كلمات في غاية الأهمية والسخرية والتناقض، بينما يتكاثر اللصوص وتزداد ثروات الفاسدين، يرشقنا بعض دعاة المنابر بالخطب الأخلاقية والحشمة والمحافظة على فروجنا، كما تقول تلك الفقرة من ص10:»وتحافظ على نظافة فروجها وأسنانها ومخالبها بدون معونة من أحد.» أي فروج سوف يحافظ عليها في زمن تكاثر اللصوص والفاسدين؟ زمن لا يجد الحرامي الصغير ما يسرقه، إذ يقول ص11:»يا صاحب هذا البيت الفقير، ها أنا أضع كل ما أخذته من بيتك تائبًا عن العودة إليك. لكنه يواصل السخرية من هذا البطل المستسلم تمامًا الكسول، الرافض حتى أن يغسل ملابسه أو يرتب غرفته، إذ يقول ص11:»فكرت في ترتيب أثاث الغرفة، خمنت أنها ستكون أوسع مما هي عليه، ولكني آثرت تأجيل هذا الأمر إلى يوم آخر، وارتحت إلى حد غير بعيد. قلت: إن الغرفة ليست سيئة إلا بمقدار، وقطعت على نفسي عهدًا أن أنام في الغد، ألا أتدخل في رزق الطيور بأي شكل من الأشكال. وعلى الرغم أنها ليلة السبت، إلا أنني قررت أن أنام، وارتحت إلى حد بعيد.» وبمواصلتنا القراءة نكتشف أن نقده لحالة عمت الكثير، إذ يقول:»لقد أصبحت مواطنًا بحق، وشعرت بنوع من الطمأنينة. وأما هذه المدينة المليئة بسيارات الديزل، فلم تجعلني طوال الفترة الماضية أكثر رضًا مما أستطيعه بنفسي، إلا أنني ربحت أشياء لم تكن في الحسبان، منها الصبر على قضاء ساعات طويلة مع الجرائد – مثلًا – من غير أن أصدقها، وتعلمت لعبة التأجيل اللذيذ، ومن الآن فسوف أجيب على المكالمات المتأخرة بمزاجي. ونسفت من ذهني كل ما يتعلق بالمودة، فلم تعد الأعمال بالنيات، وثمة موظفون يبتسمون بوجهك لأنهم يتقاضون مكافآت مقطوعة من عرق أسنانهم.» التلوث الفكري طال الجميع، وما الإشارة إلى سيارات الديزل إلا دليل واضح. ولو أكملنا قراءة المجموعة، لوجدنا أنها تتناول قضايا في غاية الأهمية تعاني منها أغلب مجتمعاتنا العربية، وليس المجتمع السعودي الذي ينتمي إليه الكاتب فقط. وقد أشرت إلى بعض تلك القضايا في بداية مقالي، وما ميز نصوص الطين هو ذكاء كاتبها وإلمامه الكامل بأسباب تأخر المجتمعات، وأسلوب كتابتها. فعندما أراد الحديث عن تهميش المرأة وعدم إعطائها حقها في الحياة، لم يقل ذلك بشكل مباشر، بل أراد أن يتعب القارئ قليلًا بالقراءة، فهو ضد الكسل، وأن يعاود القراءة للمرة العشرين أو الثلاثين، فالفهم ضد الحفظ، الذي ابتليت به مجتمعاتنا مع الأسف. لم تقم المرأة إلا بدورين فقط: الأم والزوجة. وحضور اسم «فاطمة» أو «فطوم» دليل على اختصار دور المرأة بالزوجة. تأمل أو تأملي الفقرة القادمة: ماذا تفهمان منها؟ إذ يقول ص31:»تذكرت أنني قبل أسبوع هممت بما تكره، ولكنني في آخر لحظة وجدت الاعتذار معلقًا في مقبض الباب.. والباب يحمر من خجلي. يا للعار (!!).. بصقت على رجل يشبهني قبحًا، قفز عن الفراش وجعل يثغو، يتوعد ويثغو.. يقفز ويتوعد ويثغو.. فاطمة، إذا لم تردي سأطلقك وأتزوج، فاطمة.. فاطمة.. آخر مرة، والله إذا لم تردي سأطلقك وأتزوج.» إذا هي زوجة فقط. لكن مع من يدور حوار الطرشان هذا؟ القضية التالية: الاستهلاك الذي ابتليت به مجتمعاتنا ويستنزف مواردنا وحياتنا اللامبالية التي نعيشها وتستنزفنا، فلم يجد أقرب تشبيه من عادة التدخين التي تستهلك المال والصحة فتقدّم الهلاك وليس العافية، إذ يقول ص37: «اللعنة عليّ، قال، ثم التفت إليّ قائلًا: أعذرني، إنه التبغ يا صديقي، رخيص في الدكاكين وباهظ هنا.» ومسح على منطقة القلب والرئتين. أجبته: سأحملك إذن.» الاستهلاك موت بطيء، فالموت يسيطر على قصص الدرعان، وما الإشارة إلى يوم الجمعة إلا لنقل ما يدور ربما لبعض خطب الثمانينيات من تهويل ووعيد بالنار وعذاب القبر.