ابنة ليليت.. «منيفستو» بصوتين.

تبدو الروابط الابمستولوجية بين التيارات النسوية واستراتيجيات ونزعات ما بعد الحداثة، قوية ومتداخلة؛ فالنسوية وضعت كافة المسلمات والمراكز محل المساءلة، ومن بينها مركزية الرجل، منتقدة الثقافة الذكورية، كما وضعت ما بعد الحداثة الأنساق التي تنتجها الثقافة نصبَ سهام التفكيك والشك والنقض. وبدتْ النسوية شكلًا من أشكال ما بعد الحداثة وتجليًا لها، باتفاق الاستراتيجيتين على أن المركز المهيمن على الفكر الإنساني في المرحلة الراهنة على أقل تقدير، هو «البطريركية»، بوصفه مركزًا إيديولوجيًا يجب وضعه تحت مجهر التفكيك والتقويض. وفي المجال الإبداعي، يدور مفهوم النسوية بالأساس حول ما يخص أي خطاب أدبي أو فني ارتبط بطرح قضية المرأة والدفاع عن حقوقها دون أن يكون منشأ الخطاب امرأة، كذلك الارتباط بحركة تحرير النساء وحريتهن وبصراعهن من أجل المساواة، لنصبح إزاء نهج نقدي يسعى إلى فهم كيف يعكس الأدب أو يعزز أو يتحدى الأدوار الجنسانية/النوعية والصور النمطية وديناميكيات القوة داخل سياق ثقافي محدد، معتمدًا بالأساس على تفكيك الأدوار النوعية وتقويض الأساس الفاصل بين أدوار الرجال والنساء. انطلاقًا من هذا الأساس، تكتسب رواية «ابنة ليليت» للروائي السعودي أحمد السماري جانبًا رئيسًا من جوانب أهميتها، كون خطابها يمكن أن يعد نسويًا على نحو كبير، تنجح من خلاله الذوات الساردة في تقديم «مينفستو» اجتماعي ثقافي، ينتصر للمرأة من جهة، ويقوض السياقات الثقافية والاجتماعية، كاشفًا عما تعانيه النساء في سياقات ثقافية متنوعة؛ ليصبح الهدف ليس جلد الذات وإدانة الشرق، بقدر الكشف عن السياقات الثقافية التي تدفع إلى ظلم المرأة. أسطرة التمرد الروايةـ التي فازت مؤخرًا في المشروع النوعي «تحويل الرواية السعودية إلى سيناريو سينمائي» من جمعية الأدب المهنية، تبدأ من ثمانينات القران العشرين، وبتخرج «جوهرة» في كلية الطب، تلك الشابة التي ولدت لأبّ سعودي ثري وأم هندية، لكنّ فترة الهناء لا تطول، فبعد وفاة الأب يسعى الأخ الأكبر «دعيج» إلى الاستحواذ على قسم كبير من ميراث الشقيقة وأرملة الأب، فتهاجر الطبيبة الشابة إلى الولايات المتحدة، وتسمى نفسها «جورجيت»، وتستهل معاناةً جديدةً في السياق الغربي، الذي يصور نفسه أكثر احترامًا لحقوق المرأة، إذ تتعرض مرة للاغتصاب على يدّ زميلها، ومرة أخرى لسوء المعاملة من الزوج المكسيكي الأصل، وتضطرت إلى ترك مولودتها «ميلا»، والتي بدورها ظلت لسنوات لا تعرف شيئًا عن والدتها. وعلى الرغم مما حققته جواهر أو جوجيت من مجد معرفي، وكانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق مجد سياسي في أمريكا، فإنها ظلت مأزومة تطارد هويتها وتطاردها، لتبدو حركة السرد المتبادلة بين جورجيت وميلا مؤشرًا وسعيًا في الوقت نفسه نحن السؤال الوجودي: «من أنا؟»، وهو السعي ذاته الذي بدّل الفتاة الشرقية إلى تلك «المتمردة» أو بتعبير السرد «ابنة ليليت»، ليكتسب التمرد بعدًا أسطوريًا، بجانب أبعاده الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي يزيد من تعميق الحالة الخيالية والتخيلية في الكتابة، لنبقى في الأخير إزاء خطاب روائي، غرضه الرئيس الحكي. الإشارة إلى ليليت سواء في المتن أو عنوان الرواية، تستتبع بالضرورة الحديث عن الأسطورة الأولى، التي يمكن أن نتبينها في ثقافات شتّى، وإن ارتبطت على نحو خاص بالتراث اليهودي والبابلي، إذ تتبنى إحدى الروايات الأسطورية أن ليليت هي الزوجة الأولى لآدم قبل حواء، وتصورها شخصية مثيرة للجدل تحمل في طياتها العديد من المعاني والرمزيات، أبرزها التمرد والسعي نحو الحرية. وتروي الأسطورة أن ليليت خُلقت من التراب مثل آدم، مما منحها شعورًا بالمساواة معه ورفضها الخضوع لسلطته، لترتبط فيما بعد في المخيلة الإنسانية بجانب مظلم وشرير، وتوصف بالغَاوية والشيطانة التي تقبض أرواح الأطفال، قبل أن تستحيل رمزًا للأنوثة القوية والمستقلة وللنساء اللواتي يرفضن الأدوار التقليدية المفروضة عليهن. ويبدو أن حضور ليليت باسمها أو رمزيتها في الأدب الإنساني بارزًا، مما يجعل من رواية السماري متقاطعة في التصور مع أعمال أدبية ومقالية عالمية، بدءًا من البريطاني جورج ماكدونالد في نصه «ليليت» أواخر القرن التاسع عشر، إذ صورها كشخصية معقدة مستكشفًا موضوعات الفداء والإرادة الحرة وثنائية الطبيعة البشرية. وبصورة أخرى مع رواية «آلام حواء الجديدة» لأنجيلا كارتر 1977، وإن تقاطعت رواية كارتر مع الأسطورة اليونانية تيريسياس أكثر من استدعائها لليليت كرمز للقوة والتحول الأنثوي. ونسويًا، أي في سياق السرد النسوي، تتقاطع مع عشرات إن لم تكن مئات الروايات عربيًا وعالميًا، منها أعمال الروائية الشهيرة توني موريسون الحائزة على نوبل في الآداب، كذلك مواطنتها أليس والكر، بخاصة في روايتها «اللون الأرجواني» الحاصلة على جائزة بوليتزر الأدبية عام 1983، وتتناول قضايا العنصرية والجنسانية والطبقية من خلال عدسة تجارب النساء السود في ثلاثينيات القرن العشرين، من خلال توظيف الشكل الرسائلي للتعبير عن أفكارها ومشاعرها دون رقابة. وفي رواية السمّاري، يأتي الخطاب بأحداثه أقرب إلى «البيان» الشاجب الموجّه إلى القارئ، والصادر من صوتين نسائين، يدينان المجتمع، بلغة أقرب إلى أفعال السرود منها إلى التشكيل المجازي، فامتلكت المرأتان، جورجيت وابنتها، بوصفهما منشئ الخطاب أدوات كل من القوة والسلطة، والأولى كما يراها ماكس فيبر «كل إمكانية في داخل علاقة اجتماعية لإنفاذ الرغبة الخاصة ضد رغبة الرافضين لها، بغض النظر عما ترتكز عليه تلك الإمكانية»، والأخرى/ السلطة تعني إمكانية فرص انصياع مجموعة محددة من الأشخاص لأمر له محتوى معين. إذن، تحكي المرأتان قصة واحدة تقريبًا، يتبادلان حب أوطانهما والسخط على الأوضاع في الوقت نفسه، «ألقيت نظرتي الأخيرة على نيويورك من نافذة الطائرة وفي داخلي مشاعر مختلطة من الحب والكره والإعجاب والسخط والعظمة والانحطاط والطموح والخيبة». تلك الحوادث شرقًا وغربًا رغم ما منحته للمرأتين، أحاطتهما بظروف متشابهة، الأمر الذي يجعلهما يتوقفان أمام مفهوم العائلة، التي كلما مرّ حديث عنها والماضي نقرأ «خلاص يا جواهر طاح الحطب؟»، فتجيب جواهر برضا «خلاص طاح الحطب».