الغريب الذي سيطر على المكان ..

تسلل التناصُّ بمفهومه الغربي إلى الحقل النقدي .

لم يكن النقد العربي يومًا في معزل عن رياح الفكر القادمة من وراء البحار؛ بل وقف متأملًا ما يصل إليه من مفاهيم، يزنها بموازين الثقافة والتراث، ويقيسها على قوانين اللغة في سياقاتها المختلفة، ويأبى انتهاك المحرَّم، وبين تلك المفاهيم التي طرقت أبواب النقد العربي _ فيما يشبه الغفلة من سَدَنة التراث وحُرَّاسه _ تسلل التناصُّ بمفهومه الغربي إلى الحقل النقدي العربي المعاصر؛ محمّلًا بوهج التجديد ولمعان التسمية، فاستقبله كثير من النقاد بترحابٍ وانبهار منقطعي النظير. ويرى المتأمل أن حال هذا الغريب تستدعي التأمل والتريث؛ فثمة بريق قد يخدع ببهرجته، ومفاهيم تستوجب النظر قبل أن تُمنح شرعية الحضور، وبطاقة العبور. والتناص مصطلح لا يقوم إلا على ثنائية الهدم والبناء، ولا يُشيَّد إلا على أنقاض، ولا ينهض إلا من ركام، بل يرى كلَّ نصٍّ فرعًا من أصل، أو ظلاً يتبع جسدًا ما، غير معترف بالعزلة النصِّية؛ لذا عرَّفه بعضهم بأنه “نصٌّ يقوم على أنقاض نصوص أخرى”. وهذا التعريف، وإن كان مقبولًا في سياق النتاج البشري، فإنه يكون مُربكًا وخطيرًا حين يُطبَّق على النصوص المقدَّسة؛ إذ إن المسلم الصادق العقيدة لا يمكن أن يرى الوحي امتدادًا لقول البشر، أو جزءًا منه، وهنا تبرز قيمة التراث النقدي العربي، الذي تفطَّن _ منذ زمن مبكر _ إلى خصوصية النصوص، فمايز بينها، وراعى الفوارق، ووضع المفاهيم الدقيقة التي تليق بالمقام والمقال، والتعريفات الجامعة المانعة، وكان الاقتباس والتضمين سبيلين مأمونين للتعامل مع النص الشرعي، لا يُفرِّغانه من قدسيَّته، ولا يُقحمانه في معترك قول البشر الذي قد يُفهم _ في بعض قراءاته _ على أنه نوع من الاستنساخ المتبادل بين النصوص. والحق أن مصطلح التناص بالرغم من وجاهته في سياقات معينة فإنه قد أدى إلى تذويب وتمييع الفوارق والحدود بين كثير من المصطلحات التراثية المتجذِّرة التي شكَّلت في مجملها بناءً بلاغيًا ونقديا رفيعًا ودقيقًا، مثل: الاقتباس، والتضمين، والتلميح، والإشارة في الميدان البلاغي، والمعارضات، والمواردة، ووقع الحافر على الحافر، والسرقات الأدبية، والنقائض في ميدان النقد؛ فكأنَّ المصطلح الجديد قد دخل الميدان البلاغي والنقدي للسيطرة والاستحواذ، لا الحوار والمناقشة. ومن هنا، فإنه لا بدَّ أن يكون قبول التناص مشروطًا بـوعي ثقافي، لا يُسلِم مفاتيح القراءة لمفاهيم مستوردة دون تمحيص؛ لأنَّ ما يُصلِح لغةً، قد يُفسِد أخرى، وليست كل شجرة صالحة للغرس في كل أرض؛ فلكل تُربة طباعها، ولكل غرسة مناخها، ولكل بيئة خصائصها التي تميزها عن غيرها. وإن اللغة العربية، بما فيها من سعةٍ وثراءٍ وأصالةٍ لا تحتاج إلى عُكَّازٍ دخيل تتكئ عليه؛ فهي لم تُولد من ضيق، حتى تُختزَل في مصطلح ضيِّق النطاق، والتناص وإن كان أداةً من أدوات النقد الحديث، إلا أنه _ في بعض حالاته _ يُهدد الهوية النقدية التراثية العربية، ويطمس كثيرًا من معالمها، ويستبيح شيئًا من خصوصيتها. وهذا القول لا يعني الانغلاق، أو رفض التناص جملةً؛ بل يشير إلى قبوله في حدود معيَّنة، وألا يتجاوز ساحته المشروعة؛ حيث تنفتح النصوص الإنسانية على بعضها في فضاء المقارنة والتأثر والتأثير، لا أن يُزج به في ميدان المقدَّس الذي يأنف المشاكلة، ولا يقبل النظير، أو يبعثر إرث المتقدمين، ويهدر جهودهم.