صناعة العطور ..

عبق التراث ونفحات الأجداد.

في عامٍ تتوشّح فيه المملكة بالفخر بحِرَفها التقليدية، وتفتح نوافذ الضوء على كنوزها المتوارثة، تتقدم صناعة العطور التقليدية صفوف هذا الاحتفاء، بوصفها إحدى أرقى الحرف التي سكنت الذاكرة السعودية، وارتبطت بروح المكان والإنسان. إنها حرفة لا تُصنع فيها العطور فحسب، بل تُقطَّر فيها الحكايات، وتُعبّأ فيها القيم، وتُرشّ من خلالها ملامح الأصالة على جبين الحاضر. فمنذ أن سكنت الروائح الزكية المباخر، وتسلّلت نفحات الطيب إلى المجالس والبيوت والمساجد، والعطر في المملكة يمثّل أكثر من منتج.. إنه رمز، وطقس اجتماعي، وأثر ثقافي خالد، حيث سطّر صنّاع العطور بالمملكة سيرة عطرة من التميّز والإبداع، جعلت من هذه الحرفة علامةً بارزة في مسيرة الهوية الوطنية، ووجهًا ناصعًا من وجوه عبق التراث الذي ما زال يُزهر في عام الحرف اليدوية. جذور قديمة تضرب صناعة العطور في الجزيرة العربية بجذورها في عمق التاريخ، لا بوصفها مجرد ترف حسي، بل كعنصر جوهري في نسيج الحياة اليومية والروحية لسكانها منذ آلاف السنين. فقد عُرفت مناطق جنوب الجزيرة، لا سيما حضرموت وظفار، بأنها منبع اللبان والمُرّ، وهما من أثمن المواد العطرية التي صدّرتها القوافل إلى وادي النيل وحواضر الشام وبلاد الرافدين، مرورًا بالحجاز، التي شكّلت معبرًا رئيسًا لطرق القوافل والتجارة العطرية، فيما عُرفت تيماء والعُلا بخاناتها ومحطاتها التي عطّرتها عبور القوافل المحمّلة بالطيب. لم تكن تلك العطور سلعة فقط، بل رمزًا للكرم والضيافة والتقديس، تُستخدم في تطييب البيوت والمساجد، وتُهدى للملوك والعلماء، وترافق الموتى في قبورهم. وبالانتقال إلى الحجاز، احتلت مكة المكرمة مكانة مركزية في تاريخ العطر العربي، فكانت مقصد الحجاج والتجّار من مختلف الأصقاع، يحملون معهم أصناف الطيب ويتبادلونها في سوق عكاظ وسواها من الأسواق الموسمية. وكان يُستورد العود من الهند، ويُخلط محليًا مع المسك والعنبر والمُستكة وفق وصفات تقليدية، ما جعل العطر الحجازي يُعرف بطابعه الخاص، ويُربط بالهوية الثقافية والروحية للمنطقة. ومع اتساع رقعة الحضارة الإسلامية، ازدهرت العلوم ومنها فنون الكيمياء والاستخلاص، فظهر علماء عرب ومسلمون كان لهم دور ريادي في تطوير صناعة العطور. ومن أرض الجزيرة العربية خرجت تقنيات تقطير الأزهار والأعشاب واستخلاص الزيوت، كما في كتب الكندي التي صنّفت مئات التركيبات العطرية، ورسائل الرازي التي وصف فيها أدوات تقطير تشبه ما يُستخدم في المختبرات الحديثة. وقد شكّلت هذه المعارف أساسًا لتطور العطر كعلم وفنّ، وبقيت الحرفيون في الحجاز ونجد والجنوب والشرقية يتوارثون أسرار الخلط والتخمير وتوظيف الروائح في طقوس الحياة، من التبخير إلى التعطير، حتى باتت حرفة الطيب إحدى رموز الأصالة السعودية، التي ما زالت تنبض بالحياة. مكونات محلية وتقنيات تقليدية لطالما شكّلت الطبيعة السعودية مصدرًا غنيًا للمكونات العطرية النفيسة، التي طوّعها الحرفيون بمهارة فائقة لصياغة عطور تقليدية تعبق بالأصالة، وتمثل الهوية الثقافية للمملكة. ومن بين هذه الكنوز: الورد الطائفي الذي يُزرع على مرتفعات الطائف في منطقة الهدا والشفا، ويُقطف مع شروق الشمس في موسم قصير بين أبريل ومايو، قبل أن يُقطّر في مصانع تقليدية تنتشر في تلك المدينة العتيقة. ويُعتبر هذا الورد من أجود الورود في العالم لما يحمله من نضارة ورائحة مركّبة وناعمة، ويُستخدم في صناعة العطور الفاخرة، ويأتي العود على رأس هذه المكونات، وهو ما يُعرف بـ "ذهب السعودية السائل"، لما يتمتع به من قيمة عالية ومكانة روحية واجتماعية. ويُقدَّر أن المملكة تستهلك قرابة 60٪ من إنتاج العود عالميًا، ويُستورد العود الخام عادة من الهند وكمبوديا، ثم يُعاد تقطيره وخلطه محليًا بأساليب تقليدية دقيقة لصناعة "دهن العود" الذي يُعدّ جوهرة العطور الشرقية، وتُستكمل اللوحة العطرية بمكونات مثل اللبان المستورد من ظفار، والعنبر الرمادي الذي يُجمع من سواحل البحر الأحمر والخليج، والمسك الطبيعي الذي يُخلط مع الورد والزعفران لصناعة خلطات عطرية تعرف محليًا باسم "الدهانات". أما الحرفيون، فيعتمدون على طرق التقطير التقليدية مثل التقطير بالماء والبخار في قدور نحاسية، وهي تقنيات توارثتها الأجيال في الطائف والأحساء والمدينة المنورة. ولا تقتصر مهارتهم على التقطير فحسب، بل تمتد إلى فنون الخلط والتخمير في قوارير زجاجية تُترك في الظل لشهور، ليُستخلص منها العطر العربي برائحته الغنية والمركّبة. وتبدأ خطوات الصناعة التقليدية القديمة للعطر من انتقاء المواد الخام عالية الجودة، ثم تُجفف وتُطحن يدويًا باستخدام مهراس حجري أو خشبي. بعد ذلك، تُغمر هذه المواد في ماء الورد أو الزيت، وتُوضع في قدور محكمة الإغلاق، وتُسخن على نار الحطب أو الفحم لفترة تتراوح من ساعات إلى أيام، حسب نوع المادة. وكان كبار السن يراقبون تصاعد الرائحة ويُجرّبون الخليط بالتنقيط على أطراف الأصابع، لقياس النضج والجاهزية. بعد الانتهاء، يُحفظ العطر في قوارير مغلقة تُغطى بقماش قطني أو بغطاء شمعي، وتُخزّن في أماكن باردة ومظللة حتى تترسخ الرائحة وتثبت. هوية ثقافية ومهنة متوارثة اليوم، ورغم ما شهده هذا القطاع من تطور مذهل، وظهور علامات سعودية حديثة تنافس عالميًا في فنون تركيب العطور، إلا أن الصناعات اليدوية لا تزال حاضرة بخصوصيتها ودفئها، تُعرض في المهرجانات، وتُدرَّس وتُصاغ كجزء من هويةٍ وطنية تُحافظ على إرث الأجداد، وتمنح العطر مكانته كفنٍّ حي لا يموت. فلطالما شكّلت العطور جزءًا أصيلًا من الهوية الثقافية السعودية، فهي ليست مجرد روائح تعبق في الهواء، بل تمثل رمزًا للكرم، والطهارة، وحسّ الذوق الرفيع. ففي الثقافة المحلية، لا يُستقبل الضيف إلا على أريج العود، ولا تكتمل جلسات السمر والمناسبات إلا بتمرير المبخرة، في طقس يومي يُمارَس بعناية وإجلال، يسبق الصلاة، ويصحب الأعراس، ويرافق الجنائز، في دلالة على شمولية العطر في مفاصل الحياة السعودية من الولادة حتى الوداع. وتُعدّ الجزيرة العربية مهدًا أول لحضارة العطور، ومنبعًا فريدًا للمواد الخام النفيسة التي شكّلت نواة هذا الفن، مما منح المملكة مركزًا ثقافيًا وتجاريًا في العالم العربي منذ قرون، وتبرز أسواق مثل سوق السويقة التقليدي في الرياض، وسوق العطور في جدة ومكة والطائف، كمحاور نابضة بالحياة الحِرَفية، حيث تُعرض الخلطات العطرية جنبًا إلى جنب مع المباخر اليدوية والمكونات الخام، في مشهد تختلط فيه التجارة بالذوق، والتراث بالمعاصرة، وما تزال صناعة العطور التقليدية في المملكة تُمارَس داخل مصانع وأسر حِرفية عريقة، ورثت الأسرار والوصفات جيلًا بعد جيل. لكن هذه الحرفة، ورغم وهجها الثقافي، تواجه تحديات متزايدة. فمن جهة، لا يزال الطلب مرتفعًا على العود الطبيعي رغم ندرته وارتفاع سعره، مما يفرض على الحرفيين التفكير في بدائل تحافظ على الجودة دون المساس بالهوية. ومن جهة أخرى، تُفرض معايير صحية وبيئية دقيقة على تصنيع العطور، دفعت بعض الحرفيين إلى استبدال الكحول - الذي تُستخدمه أغلب العطور العالمية كمادة حاملة – بـماء الورد الطائفي عالي التركيز والدهن، لضمان الطيب والثبات دون الإضرار بالبشرة أو المساس بالضوابط. كما يُعدّ التوازن بين التقاليد المتوارثة والمستجدات التقنية والعلمية تحديًا يوميًا للأسر الحِرفية. فبين مَن يتمسك بوصفات الأجداد، ومَن ينفتح على علوم الكيمياء والتسويق العصري، تقف حرفة العطور السعودية على مفترق طرق: تحافظ على طابعها الروحي والتراثي من جهة، وتُحاول أن تتماهى مع بيئة السوق العالمي من جهة أخرى، في مشهد يُعبّر عن مرونة هذا القطاع وقابليته للتطوّر دون أن يفقد عبيره الأصيل. آفاق معطّرة لم تعد صناعة العطور التقليدية في المملكة مجرد حرفة، بل أصبحت مسارًا ثقافيًا وتنمويًا يعكس هوية الوطن وثراءه الحضاري. من خلال فعاليات متعددة مثل "أسبوع العطور" في جدة و"عطور الشرق" بالرياض، برزت هذه الحرفة كجزء من التجربة السياحية والثقافية، ومنصة للإبداع الحِرفي وترويج التراث السعودي. وتُجسّد رؤية 2030 دعمًا فعليًا لهذه الصناعة، عبر معاهد متخصصة كـمعهد "ورث"، وتمويل المشاريع الصغيرة، وتمكين الجيل الشاب بمبادرات تسعى لحماية الحرف وتطويرها، وقد شهد قطاع العطور ارتفاعًا ملحوظًا في عدد التسجيلات التجارية عقب إرساء إصلاحات تسهل فتح الأعمال، تزامنًا مع نمو ملحوظ في عدد المشاريع الصغيرة والمتوسطة العاملة في هذا المجال. وهكذا، تظل صناعة العطور في السعودية إرثًا حيًا ينبض بعبق الأجداد، ويُعبّر عن الأصالة بروح متجددة، تمزج بين تقاليد الماضي وأدوات الحاضر، لتكتب فصلاً جديدًا من فصول الهوية السعودية العطّرة.