المدن الذكية:

تطور المفهوم وتعدد الأبعاد

يشهد العصر الحالي تحولاً حضرياً غير مسبوق، حيث أصبحت المدن تواجه تحديات متزايدة مثل الاكتظاظ السكاني واستنزاف الموارد والتلوث البيئي. في خضم هذه التحديات، برز مفهوم المدن الذكية كحلٍّ استباقي يعتمد على التكنولوجيا الحديثة لتعزيز جودة الحياة وتحقيق التنمية المستدامة. غير أن هذا المفهوم لا يقتصر على الجانب التقني فحسب، بل يشمل أبعاداً اجتماعية واقتصادية وبيئية متشابكة، مما يجعل تعريفه أمراً بالغ التعقيد. لقد تطور مفهوم المدينة الذكية عبر مراحل متعددة، بدءاً من المدن الرقمية التي ركزت على البنية التحتية التكنولوجية، مروراً بمدن المعلومات التي أولت أهمية أكبر لتدفق البيانات، ووصولاً إلى مدن المعرفة التي ربطت بين التكنولوجيا والابتكار البشري. ومع تعاظم التحديات الحضرية، اتسع نطاق المفهوم ليشمل تكاملاً أعمق بين التكنولوجيا والمجتمع، بحيث لم يعد مجرد استخدام التقنيات الحديثة غاية في حد ذاته، بل وسيلة لتحقيق تنمية شاملة. تُعرّف المدن الذكية بأنها أنظمة حضرية متقدمة تعتمد على تقنيات المعلومات والاتصالات (ICT) وأجهزة الاستشعار الذكية المرتبطة بما يُعرف بإنترنت الأشياء (IoT)، وذلك لتحسين الخدمات ورفع كفاءة إدارة الموارد. وفقاً للمعهد البريطاني للمعايير، فإن المدينة الذكية تمثل دمجاً فعالاً بين الأنظمة المادية والرقمية والبشرية في البيئة الحضرية لضمان مستقبل مستدام. إلا أن هذا التعريف ليس الوحيد، إذ تختلف الرؤى حول المفهوم باختلاف الزاوية التي ينظر منها الباحثون. فمن الناحية التقنية، تُعتبر المدينة الذكية بيئة تعتمد على البنية التحتية المتطورة مثل أنظمة النقل الذكي وشبكات الطاقة الذكية. أما اجتماعياً، فهي تُرى كمنصة لتعزيز المشاركة المجتمعية وتمكين المواطنين. في حين أنها من الناحية الاقتصادية تُعدّ محركاً للابتكار وجذب الاستثمارات والكفاءات العالمية. على الرغم من تعدد التعريفات، فإن هناك إجماعاً على أن المدن الذكية تقوم على ستة أبعاد رئيسية. يتمثل البعد الأول في الاقتصاد الذكي، الذي يركز على الابتكار وريادة الأعمال وكفاءة استخدام الموارد. أما البعد الثاني فهو التنقل الذكي، الذي يشمل أنظمة النقل المتكاملة وإدارة المرور باستخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي. ويأتي البعد الثالث ممثلاً في البيئة الذكية، التي تعنى بالإدارة الفعالة للموارد الطبيعية مثل المياه والطاقة وإعادة تدوير النفايات وغيرها. في حين يركز البعد الرابع على المجتمع الذكي، الذي يهدف إلى تمكين المواطنين من خلال التعليم الرقمي والرعاية الصحية الذكية. ويشمل البعد الخامس الحياة الذكية، التي تهدف إلى تحسين جودة المعيشة من خلال تعزيز الأمن وجودة الخدمات. أخيراً، يأتي البعد السادس ممثلاً في الحوكمة الذكية، التي تعتمد على الشفافية والمشاركة المجتمعية في صنع القرار. من الواضح أن مفهوم المدينة الذكية قد تجاوز النظرة التقليدية التي تقصر الذكاء على الجانب التكنولوجي، ليشمل رؤية أكثر شمولاً تضع الإنسان في صلب الاهتمام. فالمدينة الذكية ليست مجرد مكان تتوفر فيه أحدث التقنيات، بل هي نظام متكامل يسعى إلى تحقيق التوازن بين التطور التقني والرفاه الاجتماعي والاستدامة البيئية. وفي ظل التحديات العالمية المتنامية، تبرز المدن الذكية كنموذجٍ واعدٍ لقاطرة التنمية في القرن الحادي والعشرين. *أستاذ مساعد بجامعة القصيم مختص في المدن الذكية .