عز الدين مجوبي... صرخة الفن التي أخمدها الرصاص.

عزالدين مجوبي .. الشمعة التي أطفأتها أيادي الغدر  كان زوال الثالث عشر من فبراير عام 1995 مشهدًا من مسرحية دموية، كتبها الغدر وأخرجتها يد الإرهاب، ومثّل فيها الواقع أبشع أدواره. أمام مبنى المسرح الوطني الجزائري، حيث تُسكب الأرواح في النصوص ويُبعث فيها النبض على الخشبة، سقط الرجل الذي أفنى حياته في سبيل فنّه، برصاصة باغتته كما تباغت الخيانة المواقف النبيلة.  عز الدين مجوبي، ليس مجرد اسم في سجل المسرحيين، بل ذاكرة حيّة لا تزال تتنفس في كل كلمة تقال على الركح، في كل دمعة تنزل في لحظة صدق درامي، وفي كل وقفة تصفيق تصدر عن قلوب الجمهور لا أكفهم فقط. لم يكن مجوبي فنانًا فحسب، بل كان حامل رسالة، قائد تجربة، ووجدان جيلٍ بأكمله. لم يمت عز الدين مجوبي يوم اغتياله، بل انتقل إلى مرحلة أخرى من الوجود: وجودٍ في الذاكرة، في النصوص، في الصدى الذي لا يزال يتردد في كواليس المسارح الجزائرية، وفي حنجرة كل ممثل تخرّج من المعهد الذي علّم فيه كيف يكون الإلقاء طقسًا من طقوس النور. كيف يكون المسرح حياةً... حتى الموت. طفولة بين قوسين من الحرف والنضال وُلد عز الدين مجوبي في الثلاثين من أكتوبر سنة 1945 بمدينة عزابة الساحلية التابعة لولاية سكيكدة، وسط أسرة مثقفة. والده كان محاميًا، وقد ورث عنه عشق الكلمة، ولكن بدلاً من أن يذهب بها إلى منصة العدالة، اختار أن يزرعها على منصات الخشبة. تنحدر أصول العائلة من حمام قرقور بولاية سطيف، وهذا التنوع الجغرافي والثقافي أسهم في تكوين وعيه الفني والإنساني المبكر. منذ صغره، لم يكن عز الدين طفلًا عاديًا. كان مولعًا بالحكايات، يجمع رفاقه في الأزقة ليسرد لهم القصص وكأنها عروض مرتجلة، يحمل فيها بُذور الممثل الكبير الذي سيصير عليه يومًا ما. وبما أن البيئة كانت مهيّأة، خصوصًا في فترة ما بعد الاستقلال، التحق مبكرًا بالحياة الفنية. البدايات في قلب العاصمة... شرارة الفن الأولى في عام 1963، التحق مجوبي بـمعهد المسرح البلدي بالعاصمة، حيث بدأ ينهل من كبار أساتذة المسرح، بتشجيع خاص من الفنان الكبير الراحل علي عبدون. كانت الجزائر خارجة توا من نيران الاستعمار، تبحث عن ذاتها الثقافية، عن مسرح يروي همّها وحلمها، وهنا وجد مجوبي ضالّته، حيث كان المسرح بالنسبة له ليس ترفًا فنيًا، بل ساحة من ساحات التحرير – التحرير من الجهل، من الصمت، من الرعب. بين سنتي 1965 و1968، بدأ يعمل كممثل في الإذاعة الوطنية، وهناك اكتسب مهارات الأداء الصوتي والتعبير اللغوي، وهي مهارات ستلازمه طيلة حياته، وستجعل منه واحدًا من أبرز فناني الأداء في الجزائر. من "حافلة تسير" إلى "العَيطة"... رحلة فوق خشبات الوطن حين نذكر عز الدين مجوبي، لا يمكن أن نغفل عن رائعته المسرحية "حافلة تسير" (1985)، التي مثّلها رفقة المبدعة دليلة حليلو. في تلك المسرحية، بلغ الأداء ذروته، وتحوّلت الجملة التي كان يصرخ بها: "نَوّارة بنتي!" إلى لازمة خالدة في تاريخ المسرح الجزائري، كما لو أنها أصبحت دمغة ألم جماعي وليس فقط مشهدًا مسرحيًا. الجمهور الجزائري، الذي لا يُخدع بسهولة، تماهى مع الدور حدّ البكاء، وعرف أن هذا الرجل لا يمثل، بل يعيش كل لحظة على الركح. تحوّل "مجوبي" من ممثل موهوب إلى أيقونة مسرحية، ومن فنان فرد إلى رمز جمعي، يحكي بلسان الشارع، ويبكي بدموع الوطن. في مسرح باتنة الجهوي، أخرج سنة 1993 مسرحية "عالم البعوش"، التي نالت نجاحًا واسعًا، وحققت له جائزة أحسن ممثل في مهرجان أيام قرطاج المسرحية بتونس، نفس السنة. لم يكن هذا التتويج مجرد شهادة تقدير، بل اعترافًا دوليًا بموهبته الطاغية وقدرته على حمل النص فوق كتفيه كمن يحمل وطنًا. مسرح القلعة... الثورة الهادئة في تسعينيات الجزائر، ومع اشتداد الأزمة الأمنية، لم يفرّ مجوبي من الفن، بل واجهه بجبهة جديدة. مع كل من زياني شريف عيّاد، صونيا، وامحمد بن قطّاف، أسّس ما سُمّي بـ**"مسرح القلعة"** سنة 1990. لم يكن الاسم اعتباطيًا، فقد كان هؤلاء الفنانون يسكنون قلعة من القيم، من الإبداع، من الإيمان الراسخ بأن المسرح قد يكون آخر قلاع النور في وجه زمن الظلام. أنتج مسرح القلعة مسرحيات مثل "العيطة" و**"حافلة تسير 2"**، التي أعادت إحياء التجربة الأولى بمسحة نضج فني أكثر، عكست الواقع المتأزم في الجزائر حينها. كان مجوبي وفريقه يكتبون ويخرجون ويمثلون تحت التهديد، لكنهم كانوا يعلمون أن التراجع يعني الهزيمة. رجل خلف الكواليس... الأستاذ والمكوّن لم يكن مجوبي فنانًا نرجسيًا يكتفي بالظهور أمام الأضواء، بل كان يعمل أيضًا مكونًا وأستاذًا في المعهد الوطني العالي للفنون الدرامية، حيث علّم أجيالًا من الممثلين تقنيات الإلقاء والنطق، وكان يرى أن قوة الممثل في نبرته، في تحكمه بالعبارة، في صدقه الصوتي. كما تولّى مهامًا تقنية وفنية، منها مسؤوليته عن الجانب التنظيمي في المهرجان الوطني للمسرح المحترف بباتنة في نوفمبر 1994. وحتى حين عُيّن مديرًا عامًا للمسرح الوطني الجزائري مطلع سنة 1995، بقي يحمل نفس الحماسة التي بدأ بها في ستينات القرن الماضي. مسرح في مواجهة الرصاص: أيقونة ثقافة المقاومة في التسعينيات، حينما أصبحت الحياة اليومية في الجزائر مشروطة بالخوف، واختبأ المثقفون، واختنقت الكلمات، خرج عز الدين مجوبي ليؤكد أن الفن لا يختبئ. لم يكن ساذجًا، ولم يكن يبحث عن البطولة، بل كان مقتنعًا بأن السكوت جريمة أكبر من الرصاصة. ولأن الكلمة الصادقة كانت تُخيف، جاءت رصاصة الاغتيال لتخرسه. لكنها فشلت. لقد أثبت مجوبي أن الفنان الحقيقي لا يموت باغتياله، بل بموته المعنوي. أما هو، فقد مات واقفًا، أمام المسرح، مبتسمًا للحياة، رغم كل شيء. شهادات حية... ماذا قالوا عنه؟ قال عنه الإعلامي نجيب اسطنبولي: "كان مجوبي أعظم ممثل في جيله. لم نرَه يخطئ نبرة، ولا يفقد توازنه في موقف. كأن الخشبة خُلقت من روحه." أما الممثلة صونيا فقد قالت باكيةً في تأبينه: "قتلوا واحدًا منا، لكنهم لم يستطيعوا قتل حلمنا. سنبقى أوفياء لما زرعه." وكتب عنه الكاتب المسرحي امحمد بن قطّاف: "عز الدين لم يكن زميلًا، كان مرآة نحاول أن نرى أنفسنا من خلالها، وكان سابقًا لنا جميعًا بخطوة إلى النور. "الفن لا يقتل  ! إذا كان اغتيال عز الدين مجوبي رسالة إرهابية أرادت أن تقول "اصمتوا"، فقد ردّت عليها ذاكرته الجماعية برسالة أعمق: "الفن لا يموت". إن من يقرأ تاريخ المسرح الجزائري الحديث، لا بد أن يمر باسم مجوبي. لا يمكن تجاوزه، لأنه ليس مجرد فنان، بل مدرسة فكرية وموقفية متكاملة. لقد علّمنا أنه في وجه الرعب، لا بد أن نقف. في زمن الانكسار، لا بد أن نُبدع. وفي زمن الغدر، لا بد أن نحب الحياة أكثر. حين يكون الفنان شهيدًا... يولد المسرح من جديد لم يكن الثالث عشر من فبراير 1995 نهاية، بل بداية جديدة.بداية لوعي مسرحيّ حاد، يرى في الفن قضية، لا وظيفة.يرى في الركح منبرًا للمقاومة، لا للعرض فقط. ويرى في دم الشهيد عز الدين مجوبي نقطة انطلاق نحو مسرح نزيه، جريء، صادق.لقد اغتالوه، نعم.لكنهم لم يعرفوا أنهم بذلك أطلقوا شرارة لا تنطفئ. في الذاكرة... إلى الأبد ..عز الدين مجوبي باقٍ. * الجزائر