في مجموعة " دم الغزلان " للقاص ناصر الجاسم ..

أسطرةُ المكانِ وامتزاجُ الهويَّة بالأرضِ.

يحضرُ المكان باعتباره بوابة الهويَّة، حينما يتجلَّى في الحدث ويعمل على صِياغته، ويرتبط بالشخصيَّات فيشير إلى انتمائها، ويحضرُ في الثقافة السائدةِ فيصبح عنصراً من عناصر تشكيلِها، كما يكونُ في تسمية الإنسان ذاته فيغدو مركز الاهتمامِ ومحط الرؤية، وهكَذا تسيطر دلالة المكانِ على بقية الدلالات؛ ما يؤكِّد عمق الولاء للأرض والتشبُّع بها، وهذا ما أفصحت عنه مجموعة "دم الغزلان" القصصيَّة. يتجلَّى المكان في الحدث ويعمل على صِياغته في قصَّة (جذع يطير) التي تبدأُ بـ: "أن تكون غلاماً وسيماً في الحسا فستتشوَّه طفولتك بجريمة اغتصابٍ تنتهي بالصلح، وإن كبرت فيها وصرت رجلاً جميلاً فستسحرك امرأة حسَاوية لتتزوجها"، هذا الزوج الذي سيلاحقه جذع نخلة بينما يتذكَّر زوجته التي تنتظره وقد ارتدت فوقَ رأسها تاجاً من ورق الريحان، إلا أنها نامَت بجوار أرانبها لتنتهي القصَّة بأكل الأرانبِ "أوراق الريحان من على جديلةِ شعرها ولم تبقِ لي إلا الخيوط السوداء المعقودةَ التي تذكرني بأنني مسحور بسحر امرأةٍ من الحسَا". جذعُ النخلة الدال على المكان والانتماء يحضر في قصَّة (السور) التي تبدأُ بـ: "لا تعلو الأسوارُ إلا لوجود أموال طائلة خلفها أو ذهبٍ مشغول يخشى عليهما أن يُسرقا، أو لوجود إناثٍ جميلات يُخاف عليهن أن يُغتصبن!"، حيث تحكي قصَّة "شرار" المغرمِ بـ"وقداء" والذي يتسلَّق لأجل الوصول إليها سورَ منزلها العالي، فيسندُ "جذع نخلة طويلةٍ مشطور من منتصفه إلى شطرينِ متوازيين ملقى في الطريق"، لكنَّ الجذع "انكسر به وسقطَ على الأرض، فاستيقظ النائمون على صوتِ سقوطه في الليل الساكن، وتوافدوا إليه" ليمسكوه، وبعد الإمساكِ به "جاءوا إليه بالعصي يدبغونه" ويبصُقون عليه، حتى "أن كمية البُصاق التي نالت وجهه كافيةٌ لتغيير لون بشرته من اللونِ الأسمر إلى اللون الأبيض". يؤثر المكانُ على الشخصيات ويعملُ على تشكيلها اجتماعيًّا وبيئيًّا، ففي قصة (تغريدة خمري) يرفعُ "مربي الطيور" صوته في "سُوق الجمعة": "زوج كناري مُنتِج على الشرط، صحته طيبة"، فاندفعَ أحد رواد السوق واستجابَ له: "أريدك أن تبيعني الأنثى وحدَها"، فحاول إقناعه بأخذِ الاثنين إلا أنه لم يُفلح، فأمسك بها ودفعها إليه؛ ما جعلَ الذكر يغرد بحزن على فراقِ حبيبته، وهذا التغريد الحزين والمستمرُّ لفت نظر أحد الأطفالِ القادمين للشراء، فطلب من أبيه أن يشتري العصفور "خمري"، ليكتشف ناقلُ الخبر وراوي الأحداث شبهاً بين الطفل و"شرْية"؛ حبيبته التي "باعها أبواها منذ زمنٍ غابر، وزوجاها لرجل لا تحبُّه رغماً عني وعنها". حضورُ المكان قد يصبح كذلك عنصراً من عناصر تشكيلِ الثقافة السائدة، كما في قصَّة (وطأة علي)، فـ: "الجراد الذي غطَّى وجه الشمس يجرّد أوراق الشجر غير خائفٍ من قرع الفلاحين على التنكات، وعاجزة أصواتهم المنغمة وتصفيقهم المنتظِم عن إفزاعه، والولي الصالح في بئر الماءِ يغتسل، يغتسل من ماء البئر التي حُفرت، أو نبعت عند وطأةِ الإمام علي"؛ لتغدو مزاراً للتبرك وتحقيق الأمنيات، وهو ما استثار اثنينِ من رافضي عبادة القبور كي يقتحموا المكان ويهدموا "الوطية"، إلا أن الأحداثَ أخذت منحى مخالفاً للتوقعات، حيث هبطَ "الولي الصالح من السماءِ إلى الأرض .. وبعد تردُّد وضع قدمه مكان القدم المتشكِّلة في الطين" فطابقتها تماماً، لتنتهي القصَّة بعدم قدرة الشخصياتِ على تحقيق أهدافها، فلا رافضي عبادةِ القبور استطاعوا هدمَ "الوطية" ولا "كظومي وتفاحة" استطاعا تحقيقَ ما يرغبون فيه. تسميةُ الإنسان باسم المكان دلالةٌ على الانتماء المطلق للأرض والتشبُّع بثقافتها، كقصَّة (ابن الماء) التي تبدأُ بـ: "حَسا شاب جميل، والجمال الذي في وجهه جمالُ أنثى، والجمال الذي في جسده جمالُ ذكر، يعشق السباحةَ في نبع الخدود لحدِّ الهوس"، فبسبب ولادته في نبعِ الماء صار كالسمكة لا يغادره إلا للضرورةِ وقد استطاع إنقاذ الكثيرين، فأحبَّه الناس وغدا أسطورة بينهم، إذ "أنقذ حَسا كثيرين من الغرق ... المجنونة أم عَين ... الأعرج عامراً مع حماره الأبيض ... الأعمى بدّاح ... بقرة البريدِي ... دجاجات أم عويشير البيَّاضات"، كما كان يساعدُ "الفلاحين الطاعنين في السن" بتنظيفِ مجرى الماء من "الحشائش النابتة فيه بمحشِّه الذي يخبئه في جوف شجرةِ السدر العظيمة النامية عندَ النبع". ثمَّة محاولات لأسطرةِ المكان ونقله من وصفٍ جامد إلى بطل رئيسي في مجموعةِ (دم الغزلان)، فالقاص ناصر الجاسم يسندُ إليه أدوار البطولة ويعطيه القدرةَ على التأثير؛ ما يؤدي إلى تغييرٍ في أحداث وسلوكيَّات الشخصيات، التي تحمل الانتماء والولاءَ للمكان، وهي فكرة بُنيت عليها المجموعة ونقلتها إلى المتلقي بأسلوبٍ تمتزجُ فيه الفكاهية الساخرةُ بالجدية المفرطة.