
يقول ماريو فارجاس يوسا: «الكلمات التي نجدها في الكتب هي ألغام صغيرة موجهة لتفجر الوعي، والذاكرة، والتصرفات». ...القارئ الواعي هو الوحيد الذي يقع ضحية تلك الألغام فتستيقظ ذاكرته لتضيء فهمه لمدارات الحياة، وتلهمه التصرف الراقي مع كل المواقف، من هنا جاءت هذه القراءة لرواية محمد الشحري بعنوان: اسمه الأسمر التي صدرت عن دار الآداب في 239 صفحة، لتفجر الذاكرة فتضع بين يدي القارئ أحداثا هامة غيرت مجرى الأمور في عمان، ومع أن هذه المتغيرات كتب عنها من زوايا عدة إلا أن زاوية الشحري تختلف عن مثيلاتها؛ ذلك أنها خرجت بثوب مغاير بشخوصها التي لا تمثل مساحة كبرى في معطيات الأحداث إلا أن الروائي أبحر في خط ملاحة يراه مناسباً لطرح ما يعتمل في ذاكرته قبل أن تخونه. لماذا هذه الرواية مهمة؟ (التوطئة): قد لا تمثل بعض الأحداث التي مرت بنا في عمان شيئا جديدا لمن عاصرها، ولكنها ضرورية فيما أرى لشريحتين من القراء: الأولى: من هم خارج إطار ذلك البلد الذي كان مسرح الأحداث، وهم فئة تبحث عن المدهش والمميز في ذلك القطر البعيد الناي عنها- سلطنة عمان-، ومعرفة كيف وصل إلى هذه المرحلة بالرغم من التيارات التي عصفت به؟ وقد يكون ذلك القطر بعيدا كل البعد عن الكثير منهم بكل تفاصيل أحداثه، حتى تأتي تلك الرواية أو السيرة الذاتية فتعيده إلى الساحة الثقافية ويعود هواة التاريخ وقراء الوثائق إلى التفاصيل، وهنا تكون الرواية الحاضر الذي استدعى الماضي والمنسي الذي استدعته العقول فأصبح ضمن الذاكرة الواقعية. الشريحة الثانية: الأجيال وهم الشريحة التي لم تأت بعد أو أنها أتت ولم تعلم عن مجريات الأحداث إلا النتف التي تتقاذفها الأفواه بين محب وكاره، إذ البشر مولعون بطرق الأفكار من الزاوية التي يرونها. •الذاكرة والأجيال: يقال أن الأجيال مرهونة بالذاكرة، بل إنها -أي الذاكرة- المحرك الرئيس للكثير من المجتمعات الشرقية، بصرف النظر إن كانت أحداث هامة أم لا، ولكن نجد ذلك الاحتفاء المنعدم النظير لها، ومرجع ذلك أن الذاكرة هي التي تنظم الحياة الحاضرة وهي الباعث للوقوف أمام المتغيرات الطارئة التي قد تحدث. •الرواية كظل للأحداث: يرى بعض النقاد أن الرواية تعد شهادة تاريخية فهي قراءة تعبر عن ذلك الحدث التاريخي مستلهمة روح التاريخ وظلاله، أو ربما روح جديدة لخلق حقائق أخرى(1)، ونحن بين أمرين ذاكرة ملحة وأحداث تناولتها الرواية في قالب فني، ولذا نجد تلك الشهادة في بداية كل رواية والتي يبرأ فيها الكاتب (كل ما حدث في هذه الرواية قد حدث في الأحلام، أو في الخيال كل الشخصيات المذكورة شخصيات ورقية هرجت وهاجرت) (2) فالرواية شيء حدث في الأحلام أو في الخيال ولأننا نحب الأحلام كثيرا فإننا سنقوم بتأويلها، وربما يريد المؤلف ذلك؛ لأن الأحلام لا تنتقد ولا تحاكم أصلا، إنما يختلف التأويل بين شخص وأخر واختلافهم رحمة، وكون محمد الشحري قد نسق أحلامه في الرواية فلا بد أن يكون في حال اليقظة أي أنه متنبه لكل تفاصيلها رغم أنه حلم. •ثلاثة أحلام... ثلاثة تحولات: هذا الحلم جاء ليسوق لنا أكبر الأحداث التي مرت بها ظفار، وكل حدث (حلم) اختار له شخصية تديره: الحلم الأول:اليسار (علي الأسمر): الحدث الأهم وهي الثورة في ظفار التي بدأت في ستينيات إلى السبعينيات من القرن المنصرم وهي ثورة أخذت توجهات منها» القومي / اليساري» والأخير هو الذي اشتهرت به بين الأوساط السياسية العربية. والثورة خرجت على نظام السلطان سعيد بن تيمور الذي رفض التغيير والانفتاح والتطور وإخراج البلد من الثالوث الذي فتك بها. ويمثل هذه المرحلة علي الأسمر «شاب ... بملامح أفريقية طويل القامة، نحيف اجعد الشعر، وأنفه مستقيم، سليل أسرة قدِمت من سواحل القرن الأفريقي قبل قرن واستوطنت منطقة الحصن بصلالة(3) أعتنق الأسمر مبادئ اليسار بالرغم من أنه محسوب على حاشية السلطان ولكن الحال الذي وصل إليه البلد لم يعد يحتمل؛ فاقدم على الهرب والتوجه إلى المنطقة الغربية من ظفار والتي يطلق عليها المناطق المحررة أي أنها في أيدي الثوار ومن هناك أتيح له تعلم القراءة والكتابة ومن ثم بعثته الحركة إلى دمشق ليكمل تعليمه الجامعي، وحين دحرت الثورة ميدانيا تحولت إلى مسمى حركة وبدأ الرفاق بالعودة إلى وطنهم إلا أن الأمر لم يستمر إذ قامت بعض العناصر بالتواصل مع علي وأوكلت إليه مهام كانت نهايتها السجن والتعذيب ومن ثم خروجه بفكر أخر «حاولت مرة أن أفعل شيـئا، أن أناضل لأجل الآخرين لكنني اكتشفت عبثية ما أفعله كان الوضع أشبه بانتحار بطيء(4). الحلم الثاني: الصحوة (أبو الأسعد رجب): بعد أفول المد اليساري وظهور الجهاد الأفغاني، سطع نجم الإسلام السياسي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، وقد صادف مرحلة كان الشباب العربي في حالة من التيه؛ جراء الوضع العربي في تلك الفترة، هنا جاءت ما يسمى بالصحوة الإسلامية، واستقطبت الحركات المنظمة جل الشباب وقدمت لهم كل ما يتطلعون إليه، فتارة الجهاد، وتارة التحريض على الحكام، وتارة في البروز في الجوانب المادية، وكان أبو الأسعد رجب ممن اعتنق التيار الإسلام السياسي الذي تحضره الدولة «حينما ذهبنا إلى مصر والسعودية والأردن لم نشعر بالغربة، فقد تكفلت الجماعة بكل شيء(5)وفي تسعينيات القرن المنصرم القي القبض على كل من ينتمي لهذا التيار وأودعتهم السجن، فكان نصيب رجب أن أخذ من أمام عائلته بشكل يبعث الرهبة صورة طبعت في ذاكرة أولاده، ومن ثم خسر بعدها كل شيء الوظيفة والبيت والسيارة وخرج من السجن خالي الوفاض الأمر الذي دفعه للهروب إلى مسقط والاستقرار هناك. الحلم الثالث: جيل الربيع العربي (الأسعد): وهو الجيل الذي وجد نفسه في ترف الرأسمالية دون أن يقدم أي شيء، وفي ذات الوقت يبحث عن الفرص في كل شيء، ذلك أنه خواء حتى من التوجهات الأيدلوجية فهو لا يعرفها ولعلها حسنة تحسب له، غاية أمرهم هو الحصول على ما يأملونه من رفاهية، وقد كان القدر في صفهم حين ظهر ما يسمى بالربيع العربي، فخرجت الجموع للمطالبة بتغيير الأوضاع، وهنا استيقظت الأرواح التي تبحث عن مصلحتها ولو كان على حساب المبادئ التي خرج الناس لها، المهم اقتسام الكيكة كما يقال «لم يخرج أحد خالي الوفاض من الاعتصامات» (6) فكانت تلك المداولات بين الكثير من الشباب ودوائر صنع القرار للخروج من الاعتصام؛ شرط أن يقبض ما يحلم به من مال وجاه وكان الأسعد من بين أولئك الذين اعرفوا خارطة الطريق، «أنا أيضا فعلت، قبضت المال واستفدت من الهبات التي عرضت علي» (7). •وقود الرواية: الشخوص وتجليات التحول(التصرفات): هم الشخوص الذين حملوا أعباء الأحداث في الرواية، وقد أختار الروائي شريحة بعينها تبحث عن الحرية بكل طرائقها الأيدلوجية أو الرسمية، واظنه أصاب في اختياره (فالأسمر علي/ نصيب/ والأسعد)ينحدرون من ذات الطبقة وقد أختارهم على عناية (أما الجانب النسوي فهن أيضا في ذات الدائرة بين أم وأخت وخالة باستثناء عفاف وعنوة) لقد أعمل الشحري قلمه إلى كشف النفس البشرية وإظهار ما لا يرى، ومعرفة تناقضاتها وخيباتها وآلامها. الأسمر هو أيقونة المبادئ حمل أعباء الفكر وقدم له كل ما لديه ذلك أن الفكر اليساري الذي انتشله من مربع اللاشيء إلى تحقيق ذاته، وهي منزلة لا يقدرها إلا من شاهد تلك الحقبة المظلمة بكل ما تحمل الظلمة من معنى، ظلمة الطريق، ظلمة العيش وضنكها، ظلمة الإنسانية بجملتها، أن تجد ذاتك بعد أن تاهت في زوايا تلك الظلمات فهذا يعني أن الحياة عادت إليك، لم يكن الأسمر شاهد على الثورة بقدر الفناء فيها، فكان كل منهما وجه للآخر، فهي سلسلة من المعاناة أولها معاناة الهروب، ثم معاناة اثبات الذات من خلال نيل الشهادة من دمشق، والمعاناة الأشد الثبات على تلك المبادئ بالرغم من الخيبات التي أحاطت به ومن ثم استحالت تلك الأفكار إلى سراب، إلا أن التضحيات التي قدمها لا تسمح له أو لا يستطيع الانفكاك عنها إذ التشبث بها يمثل مرجعيته التي يتكأ عليها في كل مرحلة من مراحل حياته. (رجب) أبو الأسعد وجد نفسه في مجتمع يعود إلى منبته الإسلامي ولكن ليس على الطريقة القديمة التي تتمحور حول الموالد وتعظيم بعض الأشخاص، لقد تعرف إلى الحركات المنظمة في مصر والشام، الأمر الذي دفعه الى الانتماء والانتظام في صفوفه، تلك الحركات التي ترى بأن الإسلام هو الحل، فما تردد في تسجيل عضويته التي يراها شهادة لنيل الدنيا والأخرة، على أن الراوي لم يمل إليه ولا أحبه، وقد لا يراه أهل لأن يحمل الأفكار والمبادئ بالرغم أنه تعرض للسجن والحرمان، ومع من ذلك جعل منه شخصية متناقضة متأرجحة بين التنظيم والرغبات الشهوانية، فقد جعل منه خائن لزوجته مع الشغالة، كما أنه بدأ في التدني للبحث والحديث عن الوزير والذين يعملون على القوادة له، وكأنه يقول هكذا هم مهما تغطوا بالدين والعفاف. إذا كانت الرواية هي رحلة في اكتشاف المشاعر العميقة والحقيقية في داخل الإنسان فإن الروائي راعى ذلك في شخصية الأسعد هو الشخصية الرئيسية في الرواية التي تتصف بالعمق فهي تحمل الرغبات، والهوى، والطموح، وهو والبعد الثالث (8)، شخص حرم من والده والرفاهية التي كان عليها من سفرات وشراء ما يريد، بالإضافة إلى المدارس الخاصة، ثم مرحلة مظلمة إذ رأى والده يغطى وجهه ويساق إلى سيارات سوداء في أنصاف الليالي دون رحمة، وتفتش بيته وكأنه وكرا للمجرمين، تلتها مرحلة تلاشى فيه كل ما جمعه والده من بيت وسيارة لسدادها للبنك، بحضور عمه الذي لا يمتلك أي رحمة أو مروءة، وللجوء إلى بيت خاله الذي يفتقر إلى مقومات العيش الهنيء، بيت من غرفتين تتهاوى أطرافها، تلها منظر والدته تحترق أمام تنور الخبز؛ لتوفر له ولأخته لقمة العيش، ناهيك عن ازدراء اقرانه الذين يلمزونه بأمرين الأول: أنهم ناكرين للجميل، والثاني: (9) «لأنهم ينظرون إليك كعبد وليس ندّا لهم»، حتى جدته كانت تصارحه بأصوله الأفريقية والتي من خلالها يتعامل الناس معه، وبعد أن كافح في الحصول على الشهادات العلمية؛ ليكون له مكان في المجتمع دخل في دوامة الباحثين عن عمل، كل هذه الأحداث أوجدت لديه كتلة ألم (10)، ومرد هذه الكتلة هي البحث عن الحرية «لا أريد أن أملك أحداً أو يملكني أحد» (11) ومن خلالها- أي كتلة الألم- تعامل مع من حوله حتى الذين اخلصوا في محبته، يقبل على الأمور والأحداث المهمة بكل صدق «فهو مسرف في العاطفة جدا سريع التعلق سريع التخلي»؛ فيتماهى معها، وما أن تحيطه كتلة ألمه حتى تدفعه إلى السقوط في مرحلة يبيع فيها كل غالي يستطيع التخلص منه. باع رفقاء النضال لأجل تغيير أحواله المادية والمجتمعية «أنا أيضا فعلت، قبضت المال واستفدت من الهبات التي عرضت علي» (12) وتخلى عن عفاف في أسوء مكان، «عفاف، بكل صراحة وأمانة أقولها... خذلتك وخنتك... أعترف بالفشل في الاحتفاظ بك» (13) نستطيع أن نقول عنه شخصية سيكوباتية. «أعاني من إفلاس عاطفي في الصباح كل كلماتي الجميلة استهلكها في الأحلام» تضل أم الأسمر المستمرة في ذاكرة حاضرة عن أحوالهم القديمة والحديثة، والتي لم يعجبها أحوال ابنها الأسمر الذي نسي حلمها في أن يتزوج ويكون له خلفة تراهم قبل موتها، وابنتها منى المكافحة التي رفضت كل حسنة إلا من جارتهم الطيبة. أما عفاف الملقبة بشرقستان كانت أيقونة الحب والفكر في الرواية فقد لا تجد روح الرواية إلا في الفصول التي تظهر فيها عفاف بحواراتها عن الحياة والحب فالعلاقة التي ربطت بين عفاف والأسعد هي أيقونة الرواية التي بعدت عن جفاف الأرشفة لمصفوفة الأحداث التي مرت بها ظفار خلال ثلاثة عقود، (والرجال الذين يعانون من طفولة مستمرة بالرغم من تضخم أجسامهم) (14). عنوة المحبة التي كانت مستقرة في فكر الأسعد، ولكنه قوبل بالرفض لأنه من المشرق مصدر الإرهاب كما ترى أم عنوة، ولو تعلم أحواله لرفضته جملة وتفصيلا ولعل ما يخفي من جبل الثلج يريح الأخرين من عناء البحث والتقصي. •أسئلة مفتوحة للتفكير(الوعي): ...هل لا يزال وعينا يحتاج إلى النبش في التابوهات كالعبودية مثلا؟ وهل لاتزال مادة أو محتوى يستهوي جمهور القراء أم نحن تخطينها إلى عبودية أخر تسمى الرقمنة التي سلبتنا أخص أوقاتنا؟ وهل نحتاج إلى هزة وطنية أخرى حتى نعود إلى مربعنا الأول لنكشف عن أصولنا وانتمائنا التي من شأنها تغيير قناعتنا إلى الأسوء؟ هل الرواية هي حالة من البحث عن التحرر من كل قيد يقف أمام هذه الأسرة بثوب الأيدلوجيا تارة، والمؤسسي تارة أخرى، بل التحرر من قيد اجتماعي أيضا؟ فهذا الأسمر يرفض الزواج وابن اخته يرفض الارتباط بعفاف؛ لأنه يرفض مسؤولية أحد وأبو الأسعد أيضا هرب إلى مسقط حتى يطعم الحرية بعيدا عن الأنظار التي تلومه. ...ختاما أجد أن محمد الشحري كروائي أخذ منعطفا أو نقلة نوعية في العمل الإبداعي؛ ذلك أنه أحدث فارقا من خلال رواية (اسمه الأسمر) من حيث التقنية الشخصيات، وتناول الموضوع من زاوية مغايرة عن المعهود، على أن الرواية وإن خرجت بهذا الثوب الفني المميز إلا أنها تحتاج إلى بعض المكملات، كالعمل على الاقتراب من التساوي بين الفصول إذ نجد بعضها مختصرا للغاية والأخر يسهب فيها، ناهيك من أن الرواية تعتمد بنسبة ٩٥٪ على الذاكرة أو الفلاش باك ٥٪ من الحضور وهذا يعني أنها اعتمدت على الاسترجاع وأهملت الحضور والصوفية تقول:»لاحجاب إلا الوقت». ...................................... 1 - السماري، بدر، فن الروائي ووعي القارئ، دار تشكيل، ط1، 1446هـ، ص128 - -129 2 - رواية اسمه الأسمر ص6. 3 - اسمه الأسمر ص27 الحصن منطقة أو الحي الذي يسكن فيه حاشية السلطان سعيد. 4 - الرواية ص113 5 - الرواية ص70 6 - الرواية ص221 7 - الرواية ص209 8 - فن الروائي ووعي القارئ، ص33. 9 - الرواية ص219 10 - مصطلح فصله إكهارت تول في كتابة الشهير « أرض جديدة» 11 - الرواية ص89 12 - الرواية ص 209 13 - الرواية ص 227 14 - الرواية ص 90