شاعر في مواجهة الهموم الأكاديمية ..

د. أحمد الهلالي : مفاهيم النقد الأدبي تحوّلت إلى مذاهب لها أتباع ومريدون. .

بين سكون المراعي الأولى في «أضم» وصخب المدن التي تنقل بينها حاملاً ذكرياته وأحلامه، لم تكن بدايات أحمد الهلالي تقليدية، ولا معابره سهلة. فمن السلك العسكري إلى مقاعد الدراسة الليلية، ومن الحلم المؤجل إلى منابر الشعر، ومن المهنة إلى الرسالة. وفي خضم هذه التحولات، لم يتخلَّ عن شغفه المتنامي بالشعر قراءة وكتابة، الذي ظل ينبت كلما ظن أنه استراح. ينحاز نصّه ينحاز للغة وخطابه يستحضر الوعي بمسؤولية الأدب. وهو من الأصوات التي تقرأ الظاهرة الثقافية من داخلها، وتنحاز للتجريب حين ييبس الشكل. يعمل الدكتور أحمد الهلالي أستاذا للبلاغة والأدب بجامعة الطائف، وهو عضو مؤسس في جائزة الامير الشاعر الراحل عبدالله الفيصل، مؤسس ورئيس تحرير مجلة فرقد الإلكترونية، وعضو أمانة جائزة شاعر البيد محمد الثبيتي للإبداع. من أبرز إصداراته: ديوان: رفيف رئة، وأرق الظلال، و رواية سدرة المنتهى، وفي النقد: الغراب في الشعر الجاهلي، ودراسة بعنوان: الأندية الأدبية، النور والظلام في الشعر السعودي، نال في مسيرته الأدبية عددًا من الجوائز والتكريمات، كما شارك في مؤتمرات وأمسيات ثقافية داخل وخارج المملكة، قارئًا ومحاضرًا وفاعلًا في مشهد لا يكتفي بالكتابة، بل يتأمل شروطها. في هذا الحوار، نقترب من صورته مبدعا لا يفصل بين القصيدة والوعي، ولا يرى في التجربة الأكاديمية حاضنة مريحة، بقدر ما يراها تحديًا يستدعي الصمت أكثر من القول. • كيف تركت البيئة القروية في أضم بصمتها الأولى في وعيك بالحياة واللغة؟ الحياة في القرية مختلفة عن المدينة، ومجتمعها أكثر تقاربا، ولا يمر يوم دون أن يجتمع بعض أو كل أهالي القرية؛ فحياتهم مترابطة ومتفاعلة، يعتمدون على بعضهم اعتماد أحجار البناء على بعضها، وهذه الاجتماعات المستمرة بمختلف أنواعها ومقتضياتها تثري صغار السن على مستوى التجربة وعلى مستوى اللغة؛ لامتزاجهم المستمر بالكبار، ولقيامهم بمهام ومسؤوليات تقترب من مهام الكبار أحيانا، فيكون نضج التجربة، ونضج الوعي بالحياة عند أبناء القرى أسرع من أبناء المدن. • تنقّلت بين مدن عديدة قبل أن تستقر في الطائف، كيف أثّر هذا الطواف المكاني في تكوينك الإبداعي؟ الانتقال أولا من مجتمع القرية إلى مجتمع المدينة، ثم الانتقال من مدينة إلى أخرى، كان له أثره الكبير في تصوراتي ورؤيتي للحياة، فأنا مولع بالتأمل، وتشدهني الاختلافات، والمقارنات والمقايسات، وأظن أن لذلك أيضا أثره في تكويني الشخصي، وتكويني الإبداعي، لكنني لا أستطيع أن أتلمسه بنفسي. • لمن قرأ الهلالي، وكيف يكون الشاعر وارثاً ذكيا لمن سبقه؟ قرأت مبكرا في مكتبة والدي الصغيرة، على رغم تكوينها الديني لكتب مثل زاد المعاد ورياض الصالحين وتفسير ابن كثير وأضرابها من الكتب الدينية، إلا أنها كانت تثريني، لكنها لا تروي تعطشي إلى قراءة الشعر الفصيح الذي ولعت به منذ العاشرة من عمري وأنا أقرأ شواهده في كتاب مقرر قواعد اللغة العربية، لكني لم أجد نبعا يرويني منه إلا في المدينة، والمؤسف أن ذلك جاء مع مشاغل العمل العسكري والسفر بين القرية والمدينة أسبوعيا، حتى التحقت بالجامعة، فتوفر بين يدي نهر الشعر العربي بمختلف عصوره، وكتبت أولى قصائدي الفصحى في تلك المرحلة وعرضتها على أستاذي الدكتور عبدالله المعطاني يرحمه الله، والمفارقة أنها كانت عن قريتي. أما كيف يكون الشاعر مستوعبا ومتأثرا للتجارب التي قرأها، فذلك منوط بعوامل مختلفة، تمتزج فيها تجارب الشاعر وخبراته وثقافته مع مجموع قراءاته، وتختمر في اللاوعي، وتظهر في أثناء تجربته على نوعين، نوع: يدركه القارئ العادي، ونوع: شبه خفي، لا يستطيع معرفته إلا الخبراء بالشعر، حين تومض النصوص السابقة المختزنة في لاوعي الشاعر من خلال تجربته، فيكشف التناص والأسلوبية وأدوات قراءة النص عن أسرار تلك الومضات، وكنهها ومرجعيتها، ويميزون نكهتها. •كونك شاعرًا وأكاديميًا وناقدًا في آن، كيف توازن بين لذة الكتابة الحرة وانضباط الرؤية التحليلية؟ هذه ليست مزايا في رأيي، فالأكاديمية وظيفة، والنقد متولّد عنها، وقد أثرت سلبا على الشاعر، وعصفت بتلقائيته، وأشغلته عن الشعر في التفكير في الشعر، وما أزال أعاني من غياب الشاعر في خضم الأعمال الأكاديمية والمشروعات البحثية المستمرة، والحديث عن الموازنة هنا، هو ضرب من الوهم، فقد انزوى الشاعر، وغاب صوته، وغامت صورته خلف أكداس الهموم الأكاديمية، والحضور شبه الدائم للوعي. •هل ترى أن البيئة الأكاديمية محفّزٌ حقيقي للإبداع؟ بل بيئة توهن الإبداع، وتدفنه بسوافي همومها واشتغالاتها. •في زمن تراجع فيه الاعتراف المؤسسي لصالح الظهور الذاتي، ما جدوى المجلات الأدبية الإلكترونية؟ أهي محاولة لإعادة ترسيم المشهد الثقافي، أم امتداد لظلّ سلطة لم يعد النص في حاجة إليها؟ المجلات الأدبية الإلكترونية هي استمرار حضور الإعلام الثقافي المتخصص، وإن توفرت للمبدع منصات فردية حرة، إلا أن حضوره من خلال المجلات الأدبية ما يزال حاضرا في الذهنية؛ لأن القارئ المهتم يبحث عن وجبته القرائية الأدبية عبر هذه المجلات التي تجمع له جديد الإبداع الأدبي، والرؤى، والأفكار، والأخبار الثقافية، فالتنقل بين المنصات الفردية مرهق، ولا ينال أصحابه حظوظ الانفتاح على أصوات ورؤى جديدة، إلا من خلال المجلات الثقافية والملتقيات. • تكتب من داخل مجتمع سريع التحوّل، كيف تلتقط اللحظة الجديرة بالكتابة؟ اللحظات الجديرة بالكتابة في مجتمع كمجتمعنا تتزايد بكثرة الحراك والتحولات والتغيرات، وما ينجم عنها، وهي منجم ثمين لالتقاط الأفكار واللحظات الكتابية المميزة، وإن كنت مُقلا في الكتابة بأنواعها حاليا لانشغالي بمشروعات معرفية تستحوذ على اهتمامي ووقتي إلا أنني أجد فُسَحا صغيرة اقتنص من خلالها بعض اللحظات الكتابية الأثيرة. • ألا ترى أننا في حاجة إلى تجديد مفاهيم نقد الشعر بحيث تتحرر من المفاهيم النقدية الكلاسيكية للشعرية العربية التي ما زالت مسيطرة على الذهنية النقدية العربية؟ مفاهيم النقد الأدبي عندنا عفا عليها الزمن حتى أصبحت الاتجاهات النقدية والأدبية أشبه بالمذاهب الدينية، لها مشيخة وأتباع ومريدون متعصبون، ما صيّر الساحة الأدبية إلى حالة قريبة من الركود، تنتظمها التقليدية من جهة، والقولبة بوجهيها النقدي والإبداعي من جهة أخرى، فالأدباء متناسخون إلى حد كبير في أساليبهم ولغتهم الشعرية وحتى في اجتراح صورهم، والنقاد مكبولون في قوالب وأفكار شبه جامدة، يجدون عنتا في تجاوزها، بعضها مستمد من التراث النقدي العربي، وبعضها من النقد الغربي، فتجلى أثر ذلك على الأطروحات الأكاديمية التي تراوح في حقول محددة، بعنونات مكرورة وشبه مكرورة، معلومة نتائجها سلفا، وهذا كله قلل من حضور القصيدة العربية في المجتمعات، وجعل الأطاريح الأكاديمية والنقدية حبيسة الأرفف. هذا لا نجده غالبا في الأدب الشعبي المنعتق من القولبة، والأوصياء، فهو حيوي يجاري العصر وحياة الناس، ويؤثر فيهم أكثر مما يؤثر الأدب الفصيح، الذي يعاني مبدعوه غربة موحشة في مجتمعاتهم، تظهر صور معاناتها في نتاجاتهم الإبداعية، وفي صرخاتهم عبر الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. •من خلال عملك أستاذا للأدب العربي بجامعة الطائف، وفي تقييمك للدارسين، هل يتفوق أصحاب المواهب على غيرهم في التحصيل العلمي؟ في ملحوظاتي ـ على الأقل ـ لا أرى بين المواهب الإبداعية، وخاصة الأدبية، وبين درجة التحصيل الدراسي اتصالا، فالموهبة الإبداعية في جوهرها استعداد فطري، يصقلها المبدع بالأدوات اللازمة من خلال الملاحظة أو التعلم، وقد وجدت مبدعين في المجال الأدبي متعثرين دراسيا، ووجدت مبدعين متفوقين دراسيا. •كيف ترى موقع الشعر اليوم بين فنون السرد؟ في إيماني القار أن جميع الفنون الإبداعية تكوّنت لخدمة حاجة الإنسان إلى التعبير عن ذاته وعن الوجود، ولا يطغى أحدها على الآخر إلا بإيعاز من الحاجة التعبيرية، وقد رأينا الشاعر السارد، الذي يكتب الرواية والمسرحية والقصة القصيرة، وعلى كل حال فاللحظة الشعورية هي التي تفرض ذاتها وتوعز له باختيار الشكل الأدبي الذي يعبر من خلاله، أو يؤثره هو ويراه أقوم للتعبير عما في ذاته. ومن جهة أخرى، فالشعر يتسع للسرد منذ أن تكوّنت القصيدة العربية، حتى كتابة الشعر المسرحي في العصر الحديث، والسرد بأنواعه يقترض أحيانا لغته الشعرية من الشعر، وسيظل للسرد موقعه، وللشعر موقعه، خاصة في الذائقة العربية الإيقاعية، التي تأبى أن تتخلى عن الشعر في كل أحوالها، حتى صبغت السرد باللغة الشعرية الموقعة. •أنت من القلائل الذين كتبوا عن الأندية الأدبية بوصفها مؤسسات لتشكيل الوعي. هل ما زلت ترى في هذه المؤسسات طاقة إنتاج ثقافي، أم أن الزمن تجاوزها نحو أنماط ثقافية أكثر حرية وتفاعلية؟ العمل المؤسسي غالبا ما يكون هو الأكثر أثرا، لاعتماده على التنظيم المدروس، وعلى التراكمية، والأندية الأدبية مارست هذا العمل، وقدمت نموذجا قيّما فيه، بما تملك من أدوات وإمكانات آنذاك، وفي تحولها الآن إلى جمعيات أدبية، أظنها ستواصل الدور ذاته، لكن بأدوات معاصرة أكثر تنظيما؛ لأنها تعتمد على الحوكمة وقياس الأثر، والانفتاح على موضوعات ثقافية أكثر اتساعا عما كانت عليه في المرحلة السابقة، خاصة حين حررت وزارة الثقافة السعودية مصطلح الثقافة من قيوده السابقة، ووسعته ليشمل كل حراك المجتمع. •الجوائز الأدبية، تُنضج الذائقة أم تُكرّس لما هو سائد؟ الجوائز الأدبية محركات مهمة للإبداع، كان أسلافنا يعتمدونها في مجالس الخلفاء والأمراء والأعيان، فيتسابق الشعراء والأدباء والعلماء لنيل الحظوة والمكاسب المالية، وهي اليوم أشبه بموجات الرياح التي تحرك سطح البحر ليصنع الموجات الجميلة على الشواطئ، أو تحرك سطح التربة فتنقل البذور واللقاح، وتحرك السحب من مكان إلى آخر، فنستمتع بالمروج والأزهار والثمار. الجوائز في رأيي محركات تدفع المبدعين إلى تجويد نتاجاتهم لخوض غمار المنافسة، وتضع المتلقين في تصور النموذج الإبداعي بعلمية موثوقة، ولكن كل ذلك مرهون بسياسة الجائزة ونزاهتها ونزاهة القائمين عليها وأهليتهم العلمية. •هل تؤيد بابلو نيرودا في أن حياة الشاعر ينبغي أن تعكس قصيدته؟ ليس شرطا أن تعكس القصيدة حياة الشاعر، فربما تكون كذلك في بعض التجارب، لكنها ليست قاعدة، فالقاعدة الأساسية في رأيي في الآية الكريمة «ويقولون ما لا يفعلون»، فالشعر خلْقٌ محلق حر، جناحاه اللغة والخيال، وقصْره على العوالم المتصلة بحياة الشاعر وشخصه فيه تضييق، ربما يؤدي إلى الاختناق. •إلى أين يتجه مشروعك الشعري؟ أنا مهموم بقضايا الوعي، ولا أدّعي أنني صاحب مشروع شعري، لكن مجموع تجربتي يصطبغ بذلك، وأرجو دعواتك ودعوات قراء اليمامة أن يفزّ جواد شعري من كبوته.