قراءة في مجموعة تركي الرويثي القصصية (كيف تستظل بظلك)..
أنماط من التشكيل وألوان من التوظيف لتقنيات.

تتلامح فيها نزعة تجريبية وتتسع أمداؤها لألوان من الإبداع السردي تضم المجموعة ثمانية نصوص تحمل عنوان النص الأول فيها، لم يحدّد الكاتب على غلافها نوع النصوص ، ولم ينسبها إلى أيِّ جنس أدبي؛ ولذلك دلالة ومعنى ونزعة حداثيّة توحي بالتحرّر من التصنيف والتحديد ؛ غير أنها سرديّات تنتمي إلى فن القصة ، وإن خرجت عن بعض قيودها وحدودها. القصة الأول تحمل عنوان المجموعة كلّها ، وتؤشر إلى أسلوب الكاتب ورؤيته ومفهومه لفن القصة القصيرة ، فثمة جملة استهلالية أراد الكاتب منها أن تكون مفتاحا للولوج إلى عالمها ؛ فالخطاب موجه إلى الآخر الذي يمكن أن يكون الذات المنقسمة على نفسها أو المحاورة لذاتها أو المطلقة بلا حدود ولا سدود ، تلقائية وبوح وهواجس وتداعيات تنهمر بلا ضوابط ، تتمرّد على المألوف في الكتابة ، كلمات خارجة وأسماء وكُنىً وألقاب وفضاءات مكانية تنحسر تارة لتكون في إطار ضيّق (الفصل المدرسي) وتتّسع تارة أخر لتشمل فضاءً أوسع ، وفيها حوار صاخب بلغة شعبية متدنّية ومشهد شاذٍّ تُنتهك فيه القيم الاجتماعية والتقاليد المدرسية ، تفيض غضباً وحدّةً و تعبّر عن التوتّر والتأزّم وانفلات العُقد النفسيّة من عقالها، وارتياد لعوالم الداخل وقراءة لبواطنها ، وتكرار لعقدتها الأساسية الكامنة في اسم الشخصية الخارج عن المألوف بإيحائه المشين. بوحٌ صريح واعتراف وإعادة لسردية المشهد الانفعالي الذي يِرد على لسان الآخرين من خلال الشخصية الرئيسة التي تُروي على لسان السارد المشارك (بضمير المتكلم) ولهجة بوحيّه، وقرار قاطع حاسم من حدث جزئي استثنائي إلى تحوّل جريء في مسيرة حياتية. يختار الكاتب اسماء الشخصيات بعناية تنسجم مع دورها ؛ ف(براز) دال على تفاهتها وهامشيتها ، وكذلك الأمر في اختياره للمكان الدال على شعبيته وهامشيته (الدويخلة) واستطراد في الخطاب الذي يعلق فيه على المكان واصفاً الحيّز الذي يعيش فيه براز وصفاً يوحي بنمط العيش وأسلوب الحياة في تلك الأحياء الفقيرة ويصفه وصفا تفصيلياً مستعمِلاً المعجم الشعبي (الحوش والحريم) واللهجة العامية بمستوياتها كافّة مصريّة وحجازيّة ، مولّداً من الأحداث الصغرى القضايا الكبرى (التقدم و التعليم) مُتّخذاً من شخصيته الرئيسة (براز) نموذجا لمعالجة التخلف والارتقاء الحضاري، فقد اتسعت الرؤية في القصة من مجرد أزمة فرديّة نفسيّة إلى أزمة اجتماعيّة حضاريّة مستحوذةً على الانطباع الذي تمثّله لحظة التنوير في القصة القصيرة والرؤيا بوصفها مُعبرة عن موقف فكريًّ حضاريًّ تفضي به الرواية عادة ، فسلسلة الأحداث التي جاءت في الرواية تقتصر على مجرد التوتّر الفردي، وهو حاصل بالفعل مشكل أزمة نفسية ، والقصة القصيرة هي (فن الأزمة) غير أن اتساع المدى الزماني والفضاء المكاني وتعدّد مفاصل الحدث وتنوّع الشخصيات، قد جعل من هذه القصة مُلخّصاً لرواية من عدة فصول، تدور حول العقدة النفسية التي تسبّبها التسمية فتتحول إل أزمة اجتماعية معبرة عن الصراع بين الأجيال، وأثر البيئة وموقف الشرع منها، وكيفية المعالجة لقضية اجتماعية حضارية مهمة. فنحن أمام مشروع روائي يمكن أن يستنبت في حقل القصة القصيرة ويتجاوزها. أما قصته (الرجل الذي أعاد تركيب نفسه) فهي ذات سمة حداثية تجريبيّة غرائبيّة فلسفيّة تعيد تمثيل الواقع من خلال الترميز والفانتازيا والعجائبيّة في تشكيل كاريكاتيري تخييلي، وفي لعبة سرديّة تقلب المنطق وتعبث بسياقاته ، وتعيد التشكيل فتكاد تمحو المعالم البشرية وتخترق سُجف الواقع لتمس سقف الألعاب السحريّة محطماً قواعد المألوف مستخدماً مفردات تنتمي إلى محظورات (التابو) الاجتماعي، وربما تمسّ سقفاً أبعد من ذلك ؛ ثمة أنساق تركيبيّة لها صلة بالواقع ، تتحول فيها الشخصية إلى طاقة عابرة للإمكانات البشرية ، يتحوّل فيها الوصف إلى لعبة كاريكاتورية مثقلة بالإيحاءات الترميزيّة التي تتجاوز المعقول والمألوف إلى المعجِز والملغِز تتحدّى القصة مفهوم القراءة التقليدية والاستيعاب الواعي لتنتزع أفقاً تأويليّاً بعيد المرمى عبر معجمه متجاوزاً للسنن المألوفة في الكتابة الأدبيّة مجترحة معجماًَ شعبياً جريئاً صريحاً يتعامل مع الطبقات السفلى من الجسد في سرديّة تصويرية أشبه بألعاب السيرك والعروض السحريّة في أنساق حافلة بالدلالات الرمزية والرؤى العبثيّة، كيف يعيد تركيب نفسه ويستجلب جمهوره عبر ألعابه السيركيّة التي تمسّ تكوينه وبنيته البشرية، معجم يتعامل مع الطبقة السفلى من جسده البشري الذي يحشد بل يحشر فيه العالم في سخرية عابثة؛ فإعادة التشكيل لبّ المسألة كلها؛ ابتداء من مصنع الحياة والأحياء ليعيد تشكيل أعضاءه على نحو بالغ الغرابة فتحلُّ الجوارح بعضها محلّ بعض في رؤية مشوبة بالتلغيز والتغريب ، مُركّزاً على الأعضاء التي لا يتردّد كرها على الألسنة إلا في أدنى مستويات التواصل ؛ مخلوق استثنائي منذ أن كان جنيناً حتى تمّ إخراجه من رحم أمه بيد القابلة (أم السلف والليف) كائن بشري عصيٌّ على القدوم، مُلغز منذ قدومه إلى الحياة متمرّد على المألوف ، قدّمه الكاتب في مشهد فانتازي، أراد من خلاله أن يلخّص رؤيته للعالم ومعقوليته ، وما انتهى إليه من عبثيّة في عبارته “عمل يريد تركيبهم فيه من جديد ، فهو واحد مطلق مجرد ... يتكلم بمؤخرته يحرك ... بدلا من لسانه رأسه أسفل جسده ويداه محل قدمه .... إلخ ص15” جعل منه كائنا مجرداً مطلق الدلالة عل وضع البشرية كلها في صورة عبثية كافكاوية ، متحدثا عن تشوهاته التي هي تشوهات العالم كله ، ناعتا إياه بالبلياتشو ؛ وهي كلمة إيطالية تعني (المهرج) مذكّرا بالفيلم المصري الذي أنتج عام 2007 معبّرا عن قضايا القهر والطغيان التي يتعرض لها البسطاء ، فالمشهد الذي رسمه له في تفاعله مع الكرة الأرضية ينطوي عل سخرية حادة تمثل علاقة الفرد في تأزمه مع العالم الذي انقلبت فيه العلائق ومنطق الوجود و التواصل (اعترف لنفسه مراقباً تشوّهاته الكثيرة). ثمة نهج آخر في بنائه للقصة لا يبعد كثيرا عمّا سبقه من حيث إيغاله في السرد الغرائبي ، ولكنه يعمد إلى الأسطورة والعمل عل تفكيكها ؛ ولكنه لا يتخلّى عن استنطاق الجمادات و تشخيصها ، فالراوي جبل (أنثى) كما يصفه يستلّه من تاريخ معروف وحاضر مألوف ؛ يوظّف العلم تخييلاَ ووثائق ويحيل إلى التاريخ افتراضا، في قصته (طمية والقصة الأسطورية – سيرة جبل) أبطالها (حشد من الكائنات جبلية وإنسية، وذوو سلطان متجبرون وقادة ومستعبدون وعلماء وباحثون) ومصادرها مخطوطات وأوراق علمية وافتراضات وراء : زخم هائل تتّسع له أكثر من رواية ؛ فأثرى القصة القصيرة وحقنها بـ : بالذكريات والمذكرات والرؤى تتلامح بين السطور وتختزنها الكلمات ، وتكاد تجهر بها التأويلات والعلامات وفي الحقيقة فإن جبل طمية وجبل عكاش جبلان مشهوران في منطقة الحجاز بالمملكة العربية السعودية، وتدور حولهما أساطير شعبية عن الحب والغيرة؛ فجبل طمية: يقع بالقرب من أم الدوم، على طريق القصيم-المدينة المنورة، ويتميّز بوجود فوّهة بركانية عميقة تُعرف بـ “مقلع طمية” أو “فوهة الوعبة” تذكر الأساطير أن طمية كانت جبلًا أسود محمرًاً، عشقت جبلًا آخر يسمّى “قطن” ذو لون مائل للبياض، فانتزعت نفسها من مكانها الأصلي واتجهت نحوه، لكنها سقطت بالقرب من قطن بعد أن أصابها جبل عكاش برمحه. هذه السردية التي تتمثّل الأسطورة تارةً، والبحث العلمي تارةً أخرى، وتتحرّى الحقيقة على ألسنة الناس تارةً ثالثة في سياق متصل متعدّد الأصوات في صياغات قابلة للتأويل، واستخلاص الرؤية والعلامات الدالّة على منهج في التفكير تستلزم تمثّل الموقف الذي تضيئه على مستويات متعدّدة : المستوى الموضوعي الذي يتصل بالمعالم المكانيّة وما دار حولها من أساطير، وآخر ثقافي مسلكي ، وثالث ينفتح عل آفاق تأويليّة واسعة ، وفي كل الأحوال فإن هذه القصة تدخر إمكانات روائيّة وفنيّة جماليّة زاخرة، يمكن استثمارها على نطاق أوسع بما تنطوي عليه من أعماق تاريخية وأسطورية و ثقافيّة زاخرة. يعمد الكاتب في قصصه إل تشكيل بنية سرديّة يشوبها الغموض وتتخللها الفجوات التي تتكئ على مخيالٍ قادر على وصل حلقاتها ؛ وابتداع الشخصية واختلاق الحكاية ونسج الأسطورة واجتراح الخطاب والتحليق في فضاءات بلا تخوم ، والنموذج المتفرّد في السلوك والطباع الذي يعمّ شره محيطه كلّه كما في قصة (معقد الشوش) وما يتخلل سيرته المحكيّة من فجوات ، وفي نهاية المطاف نحن أمام سيرة جماعية تستقطبها حالة فريدة، تستنطق ما حولها في خطاب جمعيٍّ يكشف عن ثقافة مجتمع وبيئة ومُثُل وسلوك وتقاليد، ثقافة الحرب والصراع في الصحراء وفحواها وفضاءاتها وآثارُها منظومة مترابطة تستجمع أبعاداً متعدّدة في سلسلة من التوترات والأزمات ، ولحظة تنوير عارية من تعينات الحدث في خطاب تجريدي تستخلص منه خلاصات لها أمداؤها الواسعة في آفاق التأويل واجتهادات التفسير : “اعتقدوا أنه مات، لكنه لم يمت ، مات بعدها بسنوات ، وهم من ماتوا بعدها بأيام حتى فاضت دماؤهم بوادي الموت “ نموذج الشر وداعية الهلاك” مولعٌ بالغرائب ومنتش ٍ بالعجائب، يؤسطر الواقع ويحوّل الأسطورة إلى واقع كما في إحدى قصصه التي يبدؤها بالحوار وينهيها بفعل الموت مسبوقاً بوحشية الشهوة و قسوتها ، سلسلة من المعاناة الموجعة : الجوع والعطش والاستقواء والغلبة للقوة الباطشة ، وانعكاس الحرمان عل سلوك البشر قتلاً ووحشية ، فعل واقعي يفوق الخيال الأسطوري ، يتحوّل فيه البشر إلى كائنات مرعبة، وحوش دموية يأكلون لحوم البشر ، ويلوذون بقمم الجبال ، شأنهم في ذلك شأن الكائنات الخرافية : الغيلان الكاسرة امرأة تلوذ بأعلى الجبال وتتحوّل إلى كائن أسطوري شبق ينتهي بالموت بعد أن استنفد رحيق الحياة وتمرد على ربقة الأقوياء ، الموت وصراع الشهوة وانتقام الشبق والقفز فوق آدمية البشر ، صراع الغرائز وانتصار الكواسر وانقلاب الوحشية عل الآدمية طويل هو الشريط اللغوي مثخن بالوقائع كمّاً و كيفاً ، نحن أمام زخم سرديٍّ تتدافع فيه الأحداث وتتقلّب فيه الطبائع والمصائر ، ولعل في خاتمة هذه القصة ما يشير إل انبلاج لحظة التنوير واختلافها عما هو مألوف في القصص القصيرة المألوفة: “ ضربها على رأسها، انتفض جسدها، عاد الكرّة وثالثة ورابعة ، غضب وخامسة وسادسة ، ضربها حتى لم يعد يستطيع تحريك يديه، ابتعد عن جسدها قليلا ، متكئا عل طرف الحبل” ولعل هذه المجموعة القصصية تحظى بدراسة أوسع؛ فهي زاخرة بالرؤى تصطنع أساليب وتقنيات تستحق الوقوف عندها على نحو أكثر تفصيلاً واستيعاباً.