في مجموعة (مائل بخط الرقعة) لكاظم الخليفة ..
شخصيات تعيش قلق المعاصرة والحنين إلى الماضي .

مائل بخط الرقعة مجموعة قصصية صادرة عن نادي الجوف الأدبي للقاص والأديب كاظم الخليفة المجموعة كما يتضح من الغلاف تتناول قلق الإنسان المعاصر من تطورات الحياة الحديثة، وما ترتب عليها من تأثير على القيم الاجتماعية والإنسانية والموروث الذي أبرز الكاتب الحنين له من خلال بعض شخصيات المجموعة التي أعاد نبشها من الماضي مثل شخصيتي( قريمط) و(وهب)، وهو كاركتر أحسائي أبدعه الشاعران صادق السماعيل وعبدالله العبد المحسن وأهدى الكاتب القصة لهما . نبدأ من عتبة غلاف المجموعة يظهر صورة رجل متجه لعشب أخضر ورأسه يطير في الهواء على شكل بلونة تتدلى من خيط دقيق يفصله عن جسده، وهو ما يعبر عن حالة القلق بين التطور الذي يعيشه الإنسان في الحاضر والقلق من المستقبل، ويعبر عن الروح والمكان والالتصاق بالأرض بماضيها وموروثها، وفي المساحة العلوية للغلاف خضرة تصبغ اللوحة ترمز لعصر الزراعة وتضللها سحب دخان من انبعاثات غازية نتيجة للتحول إلى العصر الصناعي، وما ترتب عليه ليس تلويث الطبيعة فقط، ولكن أيضًا تلوث الإنسان بمعطيات الحضارة المادية على حساب القيم الروحية . يتبين في أسفل الغلاف خط مائل لأرض متشققة ينبت فوقها بعض العشب الأخضر، وهي تعكس حالة القلق الذي يعيشه المثقف في محاولة إيجاد التوازن بين الروح والجسد بين الفلسفة والعرفان، وما يعانيه من تشققات في تربته الداخلية ليصور حالة الألم الذي أحدثه القلق في داخله، وتوجد فوق هذه التربة الجرداء بعض الأعشاب النابتة على خط مائل لتعطي الأمل للوصول إلى حالة الاخضرار والاستقرارالنفسي بعد كل هذا القلق والبحث والصراع مع الذات ! وهذا ما أشار له الكاتب في الإهداء . ( إلى الذين يتحكمون في قدرهم ويصنعونه، الرياح لا تقتلع شجرة صحراوية تستمطر الماء من كف الرمل إلى صناع الحياة وهبة الوجود) تقوم المجموعة على ركيزتين الشخصيات التي استلهمها القاص من البيئة، والبعد الأسطوري الذي وظفه في قصصه، كما تتسم شخصيات القصص بصفات القلق والارتباك في علاقتها مع ذاتها وبيئتها ويأتي ذلك انعكاسًا لرؤية الكاتب الثقافية، لذا استلهم (الخليفة) شخصياته إما من مخيلة إبداعية، أو استخرجها من مجتمعها وبيئتها أو بالمزج بين المخيلة والواقع والتاريخي والحاضر، بعد أن أعاد إنتاجها لتخدم سرديته، ثمّ ألبسها رؤيته الثقافية لتمرير رسائله وقلقه الشخصي ليسكبها أفكارًا متدفقة في قوالب قصصية سواء كانت واقعية، أو منتمية إلى عالم التخييل السردي، لإعادة إنتاج الخطاب الذي يريده عبرها . من جانب آخر تصف قصص المجموعة التحولات الاجتماعية في الزمان والمكان من خلال أبطالها الذين وظفهم الكاتب في كل عناصر القصص السّرديّة ووظائفها، مستندًا على مخيّلته ومخزونه الثقافي ـ كما أشرت أعلاهـ ـ يقول عبد الرحمن منيف» أنّ أهمّيّة الشّخصيّة في السّرد لا تقاس أو تحدّد بالمساحة التي تحتلّها، وإنّما بالدّور الذي تقوم به، مع ما يرمز إليه هذا الدّور، وأيضًا مدى الأثر الذي تتركه في ضمير القارئ، ما يدفع به إلى التّساؤل والمقارنة، تمهيدًا لتصويب موقفه، في الواقع، وبالفعل، تجاه هذا الموضوع الأساس» وكما بذكر د.وائل جزيني في دراسته (وظيفة الشّخصيّات وهويّتها وتشكّلها في القصّة القصيرة) يعمد الكاتب في رسم شخصيّاته وأبطاله إلى وسائل مباشرة ( الطريقة التحليليّة)، وأخرى غير مباشرة (الطريقة التمثيليّة). نجد الكاتب في القصة الأولى( انفجار) رسم شخصيته من الخارج، شرح معاناتها وقلقها وتحولاتها بين الصناعة والصحراء، وعلّق على بعض تصرّفاتها، وفسّر بعضها الآخر، كما تناولت القصة صراع الإنسان مع الحياة الحديثة حتى تحول الى آلة جرداء في عالم الصناعة، ومجرد رقم مهمش في وسط الصحراء التي توجد بها المصانع، وبين أن خطورتها على نفسية الإنسان الحديث أكثر من قساوة الصحراء على البدوي حين الجفاف في الماضي ! « في البحر أنسنوا المراكب، منحوها أسماء أحبائهم، كما هو تقليد قريتي في تسمية المزارع ونعوتها، ونحن هنا ( مكننا) الإنسان فهو مجرد رقم كالمعدة تمامًا» وتصل القصة إلى أن البحر وحكاياته في الغدر وخطورته لم يكن أشد خطرًا من المصانع الحديثة التي تغتال في لحظة انفجار هذه الأرقام البشرية». « البيئة الصناعية تذيب أي معنى روحي وتطلع ميتافزيقي، تنطبع روحك بما يجاورها في البيئة ..مادية صارمة وجفاف كتصحر الأراضي المحيطة بالمعامل» أما في القصة الثانية (وهب )، وهي شخصية مستلهمة من المجتمع الأحسائي الشخصيّة استلهمها الكاتب للتعبير عن خلجات نفسه والكشف عن آرائه وأفكاره، من خلال الحنين للعودة إلى الماضي ليرسم بحروفه بساطة الناس في الأسواق الشعبية وعراك الباعة والتعليم (المطوع) وبراءة الأطفال ومشاغباتهم وقراءة (الملا للرقية)، والحكايا الشعبية الموروثة محاولًا استعادة الزمن بين الماضي والحاضر من خلال حكايات (وهب) المتداخلة في القصة. «زمن طويل بمقدار ما تركه من تغيرات في وجهينا ولون الشعر الذي مال نحو الرمادي، هو الفاصل بين آخر لقاء بوهب زمن يحسب الأيام بغير روزنامتها التي تتساقط كأوراق الخريف»، لكن على امتداد القصة كان التداخل بين صوت القاص وشخصية وهب واضحًا رغم نجاح الكاتب في رسم شخصية البطل وانتقاله من عمل إلى آخر، إلا أنه كان يعبرعن رأيه وفلسفته ويحمل بطله آراء فلسفية أكثر مما تحتمله شخصيته البسيطة لدرجة أن الكاتب تجاوز بطل القصة والكشف عن هويته المجتمعية والثقافية إلى إنتاج خطابًا خاصًا به، بما يعبر عن رؤية الكاتب الشخصية للأحداث التي عاشها (وهب) تصل حد تداخل الأصوات بين (البطل و المؤلف) بحيث يصعب على المتلقي الواعي الفصل بينهما في رؤيتهما و انتماءهما الجغرافيّ والاجتماعيّ والدينيّ والثقافيّ والإيديولوجيّ! تقدم قصة (لجوء معاشي) اختلاف الخطاب بين الأجيال، ويستخدم الكاتب الرموز ليرسم العلاقات والمجايلة بين الشّخصيّات لتعبر عن ما يطبعها من انسجام عائلي ونفسي وتباعد في المسافة الزمنية، وما تمر به هذه العلاقات من تطوّر بسبب القفزة في المتغيرات العصرية والثقافية والتقنية لأنّ كل جيل يمثل الجيل المتعدّد الباحث عن ذاته وهويّته المختلفة عن الجيل السابق والكاتب لا يتناول في القصة صراع الأجيال بل تطورها وقبولها للتحولات المرحلية في بعدها الزماني. يُلائم الكاتب في قصة ( ثيوديسيا) بين بنائه لشخصيّات القصة وبين أهدافه وأفكاره من جهة، وتتميز الشخصيات بفنيتها ليس داخل القصّة نفسها، بل في خارج القصّة في حياتها الممكن استمرارها على رؤية مختلفة بين الواقع السردي والمجتمع الواقعي . بينما عمل الكاتب في قصتي ( بذاكرة الضوء) و (عندما انتسب الى عطارد ) على موضوعية شخصياته السردية، وعدم السيطرة عليها بتحميلها أفكاره ورؤيته الثقافية، وعمد إلى إعطائها مساحة مستقلة عن الكاتب من خلال تنبع سلوكيّاتها و خلفيتها النفسيّة والاجتماعية، ووصفها من الداخل وعلاقتها بالخارج، وذلك بالغوص في عمقها النفسيّ وتصوير سلوكها الخارجي. اختزل الكاتب في قصة (عودة قريمط) التعامل مع مفهوم الأسطورة في استلهام الموروث وإعادة توظيف الرموز الأسطورية في سياقاتها التاريخية مستخدمًا الأدوات التعبيرية الحديثة كما نجد ذلك في شخصية ( قريمط)، بل قد تتخذ الشخصية التاريخية بعداً أسطورياً من خلال إبراز ذاتيتها من بيئتها وأسطرتها كشخصية تاريخية. « وحيله المبتكرة في الدفاع عن (الواحة ) أمام الغزو المتتابع وأطماع القبائل المحيطة في خيراتها». من هنا ينشأ داخل النص الفرق بين المكان الذي يتم سرده في الواقع ( الواحة)، ومن التاريخ وما يكتسبه من توظيف جديد في المخيلة لشخصية (قريمط)، وأسطرته بطريقة إبداعية يتقاطع فيه الأدب والفلسفة لتمكن الكاتب من طرح تساؤلاته الفلسفية عن الروح وعلاقتها بالجسد والتناسخ والحلول -كما يقول- د. وائل جزيني «أن الشخصيات الواقعية أو التاريخية حالما تنتقل إلى المخيلة السردية تصبح مشبعة بصفات أسطورية في تعاملها مع الواقع» ، ووفقًا للوظيفة التي حددتها كارين أرمسترونغ للأسطورة بوصفها (رغبةً للتعالي على المتشظي والمأساوي تضاهي لما يتطلع إليه الإنسان من التأمل للإمكانيات الوجودية القائمة عبر صيغة الأدب أمر قد تتمثل المجموعة عليه» فإن المراد بالأسطورية في قصة (عودة قريمط ) ليس وجود قدرات خارقة، بل ما تحمله الشخصية من الإيحاءات المبطنة والمباشرة المرتبطة بسرديتها، وليس رسمها بمواصفات خارقة عن المألوف بناءً على تسلسلها السردي في القصة ولكن مزيج من الفانتازيا والغرابية تتكشف في الحلم.. تضمنت المجموعة أيضًا في الجزء الثاني قصصًا قصيرة كان فيها من النضج الفني ما يستحق الوقوف عنده في قراءة مستقلة.