من الخطو إلى الفكرة… ومن الطريق إلى الذات ..
الفيصل تفتح ملف السفر وتعيد ترتيب العلاقة بين المكان والوعي .

في عددها (585– 586) الصادر عن شهري ذي الحجة 1446هـ – المحرم 1447هـ/ يوليو – أغسطس 2025م، تتّخذ مجلة الفيصل من موضوع السفر مدخلًا للتأمل في أحوال الإنسان المعاصر، وعلاقته بالمكان والمعنى، وبالذات التي لا تنكشف إلا عبر الرحيل. ومن خلال ملف بعنوان: «السفر... الانكشاف والتجلي»، تنزع المجلة الطابع السطحي عن مفهوم التَّرْحال؛ لتُعِيد تقديمه بوصفه تجربةً ذهنيةً ورُوحيةً، لا مجرد انتقال جسدي. يستعرض ملف السفر طيفًا واسعًا من المقاربات: تأملات فردية، وسرديات ذاتية، وتحقيقات فلسفية، تجتمع عند فكرة محورية مفادها أن الترحال لا يُختزل في اكتشاف المجهول، بل يمتد إلى تفكيك المألوف وإعادة النظر فيه. ومن خلال العبور، تنكشف الحُجب لا عن الأمكنة وحدها، بل عن الذات التي لا تُدرك غالبًا إلا حين تغادر سياقها المعتاد. وتتردد في هذه النصوص أسئلة حول الصدق والوهم في التجربة، وحول ما هو أصيل وما هو مصنوع، ودور الأدب والذاكرة واللغة في رسم خرائطنا الذهنية عن العالم. شارك في الملف كُتّاب من تجارب متنوّعة، من بينهم إبراهيم عبدالمجيد الذي يستحضر صورة المدينة كمشهد روحي، وعباس بيضون الذي يسائل «اسم السفر»، ورائد وحش، وميساء الخواجا، وصبحي موسى، وطارق الطيب، وهدى الدغفق وآخرون، في تجميعٍ يكشف عن تعددية المنظور العربي تجاه التَّرْحال. واحتوى الملف على ترجمة لدراسة فرنسية لافتة لكاتب الفلسفة يوليس باراتين، تسائل السفر من منظور نقدي: هل ما زالت الرحلة ممكنة في عصر الصور المصنعة؟ وهل يظل المسافر حرًّا في عالم تهيمن عليه أدلة الإرشاد السياحي والنزعات الاستهلاكية؟ وفي بقية أبواب العدد، تُسلِّط الفيصل الضوء على شخصيات ومفاهيم ثقافية مؤثرة؛ من بينها الباحث الأميركي بول هيك، الذي يتناول في حوار موسّع قضايا الحوار الديني وفهم الإسلام في السياقات الغربية، مستعرضًا رؤيته حول تقاطعات الإيمان والمعنى في عالم متحوّل. ويحتفي العدد بشخصيات أدبية تركت أثرًا في الذاكرة العربية؛ أبرزها خزعل الماجدي، الذي يكشف في حوار شخصي عن رؤيته الوجودية ومسيرته الشعرية والبحثية، تحت عنوان: «عشت آلاف الحيوات». وتُقدّم أيضًا قراءات معمّقة في أعمال فيصل دراج، وعبدالرحمن المرزوقي، ونجيب محفوظ، إلى جانب مقاربات لفكر جيل دولوز، ومسائل الأخلاق في زمن النفعية. وفي باب الفنون، تبرز تجربة تارا الدغيثر كمثال على تقاطع الأداء الحي مع الموسيقا والجسد، عبر عمل فني يمتح من ذاكرة الأهوار العراقية وحضارة سومر، ويسائل الحضور الأنثوي في الفضاء المعاصر. وتعرض المجلة قراءة لكتاب أوليفيا لاينغ «الحديقة في مواجهة الزمن»، بوصفه استعادة لفكرة الحدائق كمساحة للتعافي الجماعي والتأمل وسط أزمات العالم. أما في القسم الثقافي العالمي، فتتابع المجلة رموز الإسلام السياسي في فرنسا، عبر مادة تحليلية تستعرض سِيَر أوليفييه روا، وفرنسوا بورغا، وجيل كيبيل، وموقعهم داخل السجال الأكاديمي حول الإسلام والعلمانية والهجرة، في طرح يُبرِز نقد الآخر ضمن أفق معرفي منفتح. ويحتوي العدد على مختارات أدبية من نصوص إبداعية عربية وترجمات شعرية وسردية، تعبّر عن الهم الإنساني في تجلياته اليومية والكونية، في استمرار لنهج الفيصل بوصفها منبرًا للثقافة الحية التي تحتضن التنوع وتجمع بين النصوص الفكرية والفنية. وتسلّط المجلة الضوء كذلك على تدشين سمو الأمير تركي الفيصل كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» في إسبانيا، ضمن فعالية ثقافية احتفائية تستعيد عمق العلاقة بين الأدب العربي والفضاء الأندلسي. وفي القسم المخصص لأنشطة المركز، توثق المجلة مشاركة مركز الملك فيصل في معرض «عصر المماليك» بمتحف اللوفر في باريس، حيث عُرضت مقتنيات نادرة تمثّل جزءًا من الذاكرة المخطوطة للعالم الإسلامي. كما تغطي زيارة وفد مكتبة هيل الأميركية، وتوقيع مذكرة تفاهم مع جامعة شنغهاي جياو تونغ في مجال الترجمة والتعاون الثقافي، إضافة إلى عرض أنشطة وَحْدة الذاكرة السعودية ومشروعها لتفريغ التسجيلات الشفهية، بوصفه جهدًا يسعى لحفظ الوجدان الشعبي وتوثيقه. بهذا العدد، تستمر الفيصل في ترسيخ دورها بوصفها مساحة للتأمل والسؤال، لا تكتفي بعرض المعرفة، بل تثير القلق الإيجابي، وتدعو القارئ إلى إعادة التفكير في بديهياته، سواء كان واقفًا في مكانه، أم على طريق سفر.