كاتب روائي انتقل من عالم الاقتصاد إلى دنيا الأدب..
أحمد السماري: الرواية عمل فردي، لكنها تحتاج إلى فريق محترف .

أحمد السماري روائي وكاتب سعودي، ترك عالم المال والأعمال برغم ما حققه في هذا المجال من نجاحات، واختار أن يكون له موقعه في عالم الأدب، وكان له ما أراد. ولـ “السماري” حضور كبير في المشهد الثقافي والأدبي بالمملكة، فيكتب هنا، ويُشارك هناك. أما تجربته الأدبية في عالم الرواية فقد كانت لافتة ومحل أنظار النقاد والقراء، وحلّت روايته “ابنة ليليت” ضمن القائمة القصيرة التي أعلنتها جمعية الأدب المهنية السعودية للأعمال السردية المرشحة لمشروع “تحويل الرواية السعودية إلى سيناريو سينمائي 2025”. حول تجربته الأدبية وانتقاله من عالم الاقتصاد إلى دنيا الثقافة، كان لنا هذا الحوار مع الكاتب والروائي أحمد السماري. •حدثنا عن عوالمك وطقوس الكتابة لديك؟ لا طقوس خارقة لديّ، ولا أرتدي معطفًا خاصًا حين أكتب، ولا أحتاج إلى فنجان قهوةٍ بمواصفات دقيقة كي تبدأ الكلمات بالانسياب. الكتابة عندي لا تأتي بالأمر، بل بالحضور. حين تزورني الفكرة، أجلس إليها كما يجلس المرء إلى صديق قديم عاد بعد غياب: دون كثير استعداد، لكن بكامل الانتباه. أكتب غالبًا في هدوء، وفي ساعات لا يشاركني فيها أحد. الصباح صديق وفيّ للكتابة، يمنحها سكينة وعزلة، ويحرر اللغة من صخب الأمس. أكتب على الورق أحيانًا، وعلى الشاشة أحيانًا، المهم أن أسمع الصوت الداخلي للنص، لا أن أراقب شكله. عوالم الكتابة عندي تمتد بين الواقع والخيال، وبين ما رأيت بعيني وما لمحته بالحدس. قد تبدأ الحكاية من موقف بسيط، أو حوارات عابرة، أو حتى من صمتٍ شعرت أنه كان يقول شيئًا لم يُفهم. ثم تأخذني الشخصيات إلى حيث تشاء، لا إلى حيث أريد. أحيانًا أكون الكاتب، وأحيانًا أكون القارئ الأول، المندهش من الطريق الذي سلكته الرواية دون إذن واضح مني. لا أؤمن بالإلهام المفاجئ وحده، بل بالكتابة كحرفة، تحتاج إلى صبر النحات، لا اندفاع الشاعر. وقد تمضي أيامٌ دون أن أكتب سطرًا، ثم تنهمر الصفحات كما لو أن السرد كان يتخمر في الداخل بصمت. • بمن تأثرت من الكتّاب، سواء العرب أو الأجانب؟ التأثر في الكتابة ليس أمرًا واعيًا دائمًا، إنه شبيهٌ بما تتنفسه من هواء دون أن تدرك أثره الفوري. أستطيع أن أقول إنني ابن قراءات كثيرة، وأن كل كتاب جيد قرأته ترك في داخلي أثرًا، حتى وإن لم ألحظه في اللحظة نفسها. من العرب، كان نجيب محفوظ أول من أطلعني على فكرة أن الحارة الصغيرة قد تحتوي على أسئلة الكون كلّه، وأن الإنسان، مهما بدا بسيطًا، يحمل في داخله مسرحًا كاملًا من التناقضات. ثم جاء عبد الرحمن منيف، ففتح لي أبواب الصحراء كفضاء روحي وتاريخي عميق، بينما كان إبراهيم الكوني يكتب عن الرمل كما لو أنه يدوّن حكايات مقدّسة تُروى بالحكمة لا بالسرد فقط. أما عالمي غير العربي، فقد اتسع مع الزمن. أحببت باولو كويلو لأنه جعل الفلسفة تمشي حافية في طرقات الحكاية، وأُعجبت بكارلوس ثافون، ذلك الذي جعل من الكتب نفسها شخصيات حيّة داخل رواياته. إيزابيل الليندي أدهشتني بقدرتها على الجمع بين الوجع والدهشة، وموراكامي سكن رأسي بأسئلته الهادئة وغرائبيته الباردة، أما بول أوستر، فكان يسير في نصوصه كما يسير الإنسان في حياته: بلا يقين، لكن بإصرار. ولا أنسى الكتّاب السعوديين، الذين أعتبرني واحدًا من جيلهم وأصواتهم. قرأت لعبده خال ويوسف المحيميد ومحمد حسن علوان وغيرهم، ووجدت في كلٍ منهم ملامح تُعبّر عن تحولات الرواية السعودية، وعن محاولات جادّة لجعل المكان أكثر من مجرد خلفية، بل كيانًا يتنفس مع الشخوص. وفي النهاية، لستُ من الذين يضعون أسماء كتّابهم في إطار ويكتفون. أنا أقرأ باستمرار، وأتأثر بهدوء، وأكتب بما تمليه عليّ تراكمات القراءة والحياة معًا. • ما الذي أردت قوله أو الرسالة التي حملتها رواياتك الثلاث؟ ومن أين تستلهم أفكارك؟ كل رواية كتبتها كانت استجابة لنداءٍ خفيّ، وحنينٍ خاص، ومحاولة للإمساك بلحظة إنسانية تهرب من الوصف العابر. في الصريم، كتبت وفاءً لروح الآباء والأجداد، أولئك الذين غرسوا جذورهم في الأرض وقلوبهم في السماء. كانت الرواية محاولة لإعادة الإنصات لصوتهم، وهم يواجهون الحياة بالصبر والكرامة، وسط تحولات قاسية، أتت أكلها إلى أجيالنا وأبنائنا بالخير العميم. أما قنطرة، فهي عودتي إلى طفولتي، إلى الحارة الشعبية التي تربيت فيها، وإلى الفن الشعبي الذي كان بمثابة ذاكرة صوتية وبصرية تُروى لا بالكلمات، بل بالإيقاع والحنين. هناك، حيث كانت البيوت متجاورة كالأحلام، والنفوس مفتوحة كالأبواب، حاولت أن أكتب عن البراءة، والخذلان، وعن الفرح والانكسارات وعن الهامش والمتن. ثم جاءت ابنة ليليت، صرخة نسائية لا تبحث عن عطف، بل عن اعتراف. كتبتها لأصغي إلى المرأة حين تُقصى، حين تُخضع، حين تُجرَّد من ذاتها باسم العادات أو الطمع أو الخوف. هي رواية صراع بين ثقافات تتنازع الجسد والروح، وبين هوية تبحث عن نفسها في مرآة مكسورة. أما الأفكار، فأنا لا أختلقها بقدر ما أكتشفها. قد تأتيني من مشهد عابر، من ذكرى بعيدة، من سؤال لم يُجب عليه أحد. أستلهم من الحياة حين تنكشف في لحظة، وتبوح بما لا تقوله في العلن. أراقب الناس، وأنصت للمدن، وأمشي كثيرًا في طرقات الذاكرة. • الرواية من أحدث الفنون الأدبية في الأدب العربي، كيف استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه من الذيوع الآن؟ وهل استطعتم ككُتّاب رواية تجاوز نجيب محفوظ؟ نعم، استطاعت الرواية العربية أن تتقدّم بخطى مدهشة، حتى غدت الفن الأدبي الأكثر حضورًا وتأثيرًا في الساحة الثقافية. وما هذا الذيوع إلا انعكاس لتحوّل عميق في ذائقة القارئ العربي، الذي وجد في الرواية مساحة أرحب لفهم نفسه، ومجتمعه، وتاريخه، وتناقضاته. الرواية جاءت متأخرة إلى الأدب العربي، لكن حين جاءت، جاءت كضرورة لا كتجريب. حملت في صفحاتها ما لم يعد الشعر قادرًا وحده على احتوائه: التفاصيل، الأصوات الهامشية، الطبقات المسحوقة، المدن المتغيرة، والأسئلة الوجودية التي لا تُجاب بقافية. ومع تطور المجتمعات وازدياد تعقيد الحياة، صارت الرواية مرآة مفتوحة تطل على النفس والواقع في آنٍ معًا. صحيح أن هناك غثًّا كثيرًا يُنشر، لكن هذا طبيعي في أي مرحلة نمو وازدهار. فالكمّ أحيانًا هو الذي يُتيح للكيف أن يظهر. لا يمكن أن ننتظر نضوج الحصاد من دون اتساع الحقل، ولا يُمكن تفتّح الزهر من غير ازدحام البذور. أما نجيب محفوظ، لا يُعبر عنه كاسم أو جائزة، هو في الحقيقة مؤسسة سردية قامت على أكتافه الرواية العربية الحديثة. تجاوز نجيب محفوظ لا يكون بإزاحته، بل بالبناء على ما بدأه. نحن لا نتجاوزه لنتفوّق عليه، بل لنعبر الجسر الذي صنعه نحو آفاق أوسع، وأزمنة مختلفة، وأسئلة جديدة. كل جيل له تجربته، ومشهده، وأدواته. ومثلما لم يكرر محفوظ من سبقوه، نحن أيضًا لا نكرر محفوظ، لكننا نحمل له الامتنان، ونمضي في الطريق الذي شقّه بإصرار ومهارة. • كيف تستطيع الحفاظ على درجة التوتر في الأحداث؟ الحفاظ على التوتر السردي ليس مجرد حيلة فنية، بل هو مهارة تتطلب صبر البنّاء ودهاء الراوي. وقد كانت هذه واحدة من أهم المسائل التي أوليتها عناية خاصة في تطوير أسلوبي، حتى صارت جزءًا من بصمتي السردية. أؤمن أن القارئ لا يعود إلى الرواية لأنه يعرف ما سيحدث، بل لأنه لا يستطيع أن يتوقف عن ملاحقة ما قد يحدث. لذلك أحرص دائمًا على أن تكون كل صفحة مشدودة إلى ما قبلها، وممدودة لما بعدها، كأن الرواية بكاملها نَفَسٌ واحد لا ينقطع. عملت كثيرًا على بناء التوتر عبر تنويع الإيقاع، والمزج بين التصعيد النفسي والحدثي، والتقطيع الزمني المدروس، وكذلك عبر رسم شخصيات تحتمل المفاجأة والانقلاب الداخلي، بحيث لا تكون قابلة للتوقّع، لكنها تبقى منسجمة مع ذاتها. في ابنة ليليت مثلًا، استطعت، بفضل الله أولًا، ثم بفعل التجربة والوعي، أن أجعل الكثير من القرّاء يتمّون الرواية في جلسة واحدة، كما أخبروني. وذلك لم يكن ليحدث لولا حرصي على أن يبقى الخيط مشدودًا من أول سطر إلى آخر نفس. التوتر في الرواية ليس بالضرورة صراخًا أو دويًا دراميًا، بل هو غالبًا خيطٌ خفيّ، يلتف حول القارئ رويدًا، حتى ينسى الوقت، ويصبح هو الآخر جزءًا من الحكاية. • من وجهة نظرك، ما مفهوم شعرية الرواية؟ شعرية الرواية، في نظري، هي أسلوب يرقى بالسرد ليجعله أكثر نبضًا، أكثر حسًّا، وأكثر قدرة على لمس القارئ من الداخل. إنها الطريقة التي تجعل من العبارة البسيطة لحظة مشحونة بالدلالة، وتجعل من الوصف العابر مشهدًا يبقى عالقًا في الذاكرة. لكنّي أؤمن أن الأصل في الرواية هو الحكاية والشخصيات. الحكاية التي تمسك بالقارئ من الجملة الأولى، والشخصيات التي تعيش خارج الورق كما لو كانت من لحم ودم. الشعرية لا تصنع رواية، لكنها ترفع منسوب جمالها حين تكون في موضعها، منسابة في نسيج السرد لا متعالية عليه. الرواية التي تفيض بالشعرية لكنها تفتقر إلى العمق السردي أو البناء الدرامي، قد تُدهشك قليلًا، لكنها لا تمكث طويلًا في الوجدان. أما الرواية التي تحمل قصة تُروى، وشخصيات تُحب وتُكره وتُنسى وتُستعاد، فهي التي تملك البقاء. الشعرية إذًا ليست الغاية، بل الجسر بين المعنى والإحساس. • ما رأيك في الرواية التي تستلهم التاريخ؟ وهل الروايات التاريخية تُعد نوعًا من التاريخ؟ أوافق تمامًا ما قالته الروائية النيجيرية تشيماماندا أديتشي: “المؤرخون يكتبون ماذا حدث في الحرب، والروائيون يكتبون كيف كان الناس يشعرون بما حدث أثناء وقت الحرب.” فالتاريخ يُدوّن ما وقع، أما الرواية فتنقب في العُمق الإنساني لِمَ لم يُكتب، لِمَ لم يُقَل، لِمَ لم تستطع الوثائق أن تنقله: الخوف، الأمل، الحيرة، خيانة الصديق، رعشة الأم، نظرة الجندي التي تسبق الطلقة. الرواية التي تستلهم التاريخ لا تسعى لإعادة بناء الماضي كما جرى، بل كما عاشه البشر، كما اختبَرته أرواحهم وأجسادهم وقلوبهم. هي كتابة من داخل الوجع، لا من حوله. لهذا، لا أرى الرواية التاريخية نوعًا من التأريخ، لكنها قد تكون “عدسة الروح” التي تُكمل ما أغفلته “عدسة المؤرخ”. هي تحفر لا لتُثبت، بل لتفهم، وتروي لا لتُقنع، بل لتُشرك القارئ في شعورٍ إنسانيٍّ لا تنقله الأرقام ولا التواريخ. في زمن تكثر فيه الروايات الرسمية ويتعدد فيه المؤرخون، تظل الرواية هي الصوت الحيّ لأولئك الذين عاشوا بصمت، وماتوا دون أن تُكتب أسماءهم في هوامش الكتب. •هل أثرت الجوائز الأدبية والمسابقات، وخاصة الخليجية، في الفن الروائي؟ لا شك أن الجوائز الأدبية، بمختلف أشكالها، أصبحت عنصرًا مهمًا في المشهد الثقافي العربي والخليجي. فوق أنها معدة لتكافؤ المبدعين، غايتها الأسمى أن ترفع من جودة الأعمال، وتمنح الرواية حضورًا أوسع، وتشجع على التفرغ الجاد للكتابة. بل يمكن القول إنها، في زمننا هذا، باتت من الضروريات التي لا يُمكن إغفال أثرها في تطوير الحركة الأدبية. لكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى بعض المآخذ الحقيقية، خصوصًا فيما يتعلق ببعض الجوائز الخليجية والعربية، حيث تظهر أحيانًا ممارسات تثير التساؤل، من غياب الشفافية، إلى ضعف التقييم، وربما عدم قراءة بعض النصوص أصلاً، وهو أمر بلغني من أكثر من جهة موثوقة. تضاف إلى ذلك التأثيرات السلبية للنفوذ السياسي، أو العلاقات الشخصية بين بعض دور النشر وأعضاء لجان التحكيم، مما يُضعف ثقة الكاتب والقارئ معًا، ويُلقي بظلالٍ من الشك على مصداقية النتائج، عندما تفوز بعض الروايات العادية وغير المتميزة بجوائز كبرى، مما يربك المشهد ويبعث برسائل خاطئة للكتّاب والقرّاء معًا. فحين تُكرَّم نصوص لا تحمل قيمة فنية واضحة، ولا تضيف جديدًا إلى السرد أو اللغة أو الفكرة، فإن ذلك يُفقد الجوائز دورها التنويري ويجعل منها مناسبة احتفالية أكثر منها معيارًا للجودة. بل وقد يُحبط الكتّاب الجادين، ويُشجّع على موجة من الإنتاج السريع بحثًا عن التكريم، لا عن التعبير الحقيقي. لذلك، فإن إصلاح منظومة الجوائز لا يكون بإلغائها، لكن بإعادة الاعتبار للمعايير، وبالحرص على لجان تحكيم نزيهة، متجردة، متنوعة فكريًا وجيليًا، تمتلك من الحس الأدبي ما يجعلها تقرأ بعين الناقد لا بعين المجاملة، وبمسؤولية المثقف لا بهواجس التوازنات. لذلك كنت من أوائل المطالبين بجائزة محلية مستقلة للرواية السعودية، تنطلق من الداخل وتُعنى بالإنتاج المحلي بمعايير عادلة وموضوعية. والحمد لله، هناك تحركات جادة من جمعية الأدب السعودية المهنية نحو إعلان هذه الجائزة قريبًا. فنحن اليوم نشهد نهضة سردية لافتة، وصلت إلى 317 رواية سعودية في عام 2024 فقط، بحسب تقرير منصة أدب ماب، والعدد في ازدياد. وهذه الطفرة تستحق مناخًا نقديًّا ومؤسسيًّا يحتضنها ويمنحها حقّها من التقدير والتقويم. • هل من اللازم للروائي الإلمام بالنحو والصرف والبلاغة؟ المعرفة اللغوية، من نحوٍ وصرفٍ وبلاغة، بلا شك تضيف الكثير للروائي، وتمنحه أدواتٍ أدق في تشكيل جمله، وتوسيع فضاء تعبيره، والتمييز بين ما هو مقبول لغويًا وما هو إبداعيًا ممكن. لكنها ليست شرطًا صارمًا، بل وسيلة تعين الكاتب على إحكام لغته، لا أن تُقيده. في النهاية، الرواية ليست تمرينًا نحويًا، بل فنّ تعبيريّ. فإذا امتلك الكاتب الحس اللغوي الفطري، والقدرة على التعبير الحيّ، فذلك قد يغنيه إلى حدٍّ ما عن التبحّر النظري، ما دام هناك مدققون لغويون يُراجعون النص، ويحرصون على سلامته من العثرات التقنية. لكن ما نفتقده بشدة في عالم النشر العربي ليس المدقق اللغوي، نحن بحاجة ماسة للمحرر الأدبي، ذاك الذي يشتغل على النص من الداخل: يُنقّحه، يقترح، يراجع البناء، يُضيء مناطق الظل، ويعيد توزيع الضوء حيث يجب. غياب هذا الدور جعل كثيرًا من الروايات تُنشر وهي لا تزال في طور المسودّة، رغم ما فيها من إمكانات. المعرفة مهمة، والدعم المهني لا يقل أهمية. الرواية عمل فردي في بدايته، لكنها تحتاج فريقًا محترفًا لتصل إلى القارئ في صورتها الأجمل.