فيلم طويل لفكرة قصيرة..

أحــــلام العصــر .

هناك أفلام تبدأ من فكرة ذكية، ثم تنحرف عنها كلما حاولت أن تشرحها أكثر. فيلم أحلام العصر (2023) من هذا النوع بالضبط. فمنذ اللحظة الأولى، يدّعي الفيلم أنه يعرف ما يريد: نعيش في زمن صار فيه الظهور هدفًا، والشهرة مرضًا اجتماعيًا. الفكرة واضحة، بل ومغرية للمعالجة، لكن الطريقة التي عُولجت بها جاءت دون المستوى. السرد مشتّت، الأحداث تتكرر، والشخصيات تمضي في دوائر لا نهاية لها. ثلاث ساعات من الفوضى البصرية والحوارات المتشابكة تكفي لجعل أي فكرة قوية تبدو مهزوزة، خصوصًا حين يُترك البناء الدرامي لصالح الزينة الشكلية. فبدل أن نغوص في أزمة هذا “العصر”، نجد أنفسنا في عرض مسرحي مبالغ فيه، لا يترك لنا سوى الأسئلة: لماذا كل هذا الوقت؟ ولماذا كل هذا التشويش؟ وهل كان من الضروري أن تتحول الفكرة إلى سريالية بعيدة عن الواقع إلى هذا الحد؟ من اللحظة الأولى، يهيئنا الفيلم أننا أمام شيء مختلف. لغة تصوير لاهثة، مونتاج متقطع الإيقاع، شخصيات تتهكم على نفسها وعلى العالم من حولها، وتقسيم سردي إلى ستة فصول في محاولة لإضفاء نَفَس روائي على مادة سينمائية. لكن هذا الطموح لا يلبث أن ينقلب على نفسه. فالفيلم، الذي تصل مدته إلى نحو ثلاث ساعات، لا يعرف متى يجب أن يتوقف عن الشرح، ولا متى يُترك للمُشاهد أن يلتقط المعنى دون وصاية. تتكرر المواقف، وتتكرر الانفعالات، وبدل أن يعمّق الزمنُ الحكاية، نجد أنفسنا أمام دوائر مفرغة من الأحداث التي تُعاد بصيغ مختلفة. فعبد الصمد (صهيب قدس) لاعب الكرة المعتزل، يبحث عن مجد بديل في عالم شهير بمكافأته للابتذال، فيُقدّم نفسه كضحية ومتمرّد في آن. إلى جانبه ابنته أحلام، التي تمثل الجيل الجديد من صانعي المحتوى، لا تستند إلى شيء سوى اسم والدها، في سعيها لصناعة “هوية” رقمية، وقد أدت دورها ببراعة الممثلة الصاعدة (نجم). نتابع مسيرتهما في وكالة تُديرها شخصيتان: حكيم، الذي يتعامل مع الظهور كمشروع تجاري بحت، وقد أدّاه (حكيم جمعة) بأداء يجمع السخرية بالبرود المهني، وآلاء، التي تمثل عقلانية خادعة تخفي جشعًا مكتومًا، وقد جسّدتها (فاطمة البنوي) بشخصية تحاول أن تكون صلبة ومتحفظة رغم التصدعات الأخلاقية الواضحة. في محاولة للإفلات من المباشرة، يغوص الفيلم في السريالية. فجأة يتحول الواقع إلى مسرح، تتداخل فيه مشاهد بألوان مفرطة، وخلفيات موسيقية أشبه بالهلوسة، وقطع زمني متعمد، يقفز بنا بين لحظة وأخرى دون مقدمات. هذا الأسلوب، رغم جمالياته المحتملة، يتحوّل إلى عبء حين لا يُضبط بسياق داخلي مقنع. فالفوضى هنا ليست وسيلة فنية للتعبير عن اضطراب الشخصيات أو انهيار القيم، بل تبدو كزينة شكلية، تثير الإعجاب في أول الأمر، ثم ترهق البصر والفهم. فحين يتحول عبد الصمد من لاعب كرة مأزوم إلى متحدث ملهم ثم إلى أداة تسويقية، نكتشف أن المشكلة ليست في الشخصية بل في الرؤية السردية التي تتعامل مع تحوّلاته كأمر حتمي، لا يحتاج إلى تمهيد ولا تحليل. كما أن “الفلاش باكات” المتكررة، والمشاهد المكررة بحوارات مختلفة، لا تضيف سوى مزيد من التشتت، وتجعل المتفرج في حالة مقاومة دائمة لفهم الاتجاه العام للفيلم. لا نكاد نمسك خيطًا حتى ينقطع، ولا نكاد نتعاطف مع أحد حتى يُسحب من أمامنا ليُستبدل بمشهد ساخر أو رقصة عبثية. لا يمكن إنكار أن بعض الأداءات التمثيلية جاءت قوية. حكيم جمعة، على وجه الخصوص، قدّم شخصية تنوس بين السخرية والبرود والاحترافية، وجعل من كل مشهد له حقل ألغام لفظي. كذلك فاطمة البنوي استطاعت أن تُدخل شيئًا من التوتر الصامت في شخصية “آلاء”، خاصة في النصف الثاني من الفيلم، حين تتكشف بعض دوافعها. ويُحسب لصهيب أنه قدّم شخصية متناقضة بوعي واضح، رغم أن بنية الشخصية نفسها بقيت مرتبكة. أما “نجم” فقد أظهرت مرونة وموهبة واعدة، رغم أن الشخصية لم تُعطَ عمقًا كافيًا يليق بمحوريتها. لكن تلك الجهود التمثيلية تصطدم بحوارات مطوّلة بلا طائل، ومشاهد مكتوبة لأجل اللمعان لا البناء. الكوميديا السوداء حين تُستخدم بلا موازنة، تتحول إلى عُري رمزي لا يستر شيئًا، وهذا ما يحدث مرارًا في الفيلم. من الواضح أن العمل تأثر بفيلم شمس المعارف (2020) الذي قدماه ذات الأخوين قدس، وهو العمل الذي لاقى استحسانًا كبيرًا وقت صدوره بسبب صدقه وبساطته في طرح موضوع صانعي المحتوى. إلا أن أحلام العصر، للأخوين، يحاول أن يتجاوز شمس المعارف من حيث الشكل والأسلوب، لكنه يقع في فخ التنظير الزائد. ما كان في شمس المعارف عفويًا، صار هنا مصطنعًا، وما بدا هناك شغفًا صار هنا استعراضًا. فالمخرج يحاول أن يقول كل شيء دفعة واحدة: عن الإعلام، والرياضة، والنفوذ، والتمثيل، والهوية، واللا معنى. لكن محاولة الإمساك بكل شيء تنتهي غالبًا بفقدان الجوهر. ومع أن الرؤية الإخراجية جريئة، إلا أنها تحتاج إلى تركيز أقل على الانبهار البصري، وأكثر على وزن المحتوى. يبدو أن صُنّاع الفيلم أرادوا إثبات قدرتهم على صناعة عمل غير تقليدي. ونجحوا، بلا شك، في كسر القالب الكلاسيكي للأفلام السعودية المعتادة. لكن هذا الانفلات من القالب لم يصنع قالبًا جديدًا، بل ترك الفيلم يتأرجح بين الاستعراض البصري والتجريب اللغوي، دون أن يُمسك بتلابيب سردٍ متماسك. ما هو “الحلم” في أحلام العصر؟ وما هو “العصر” نفسه؟ هل هو مجرد انعكاس لحالة “السوشال ميديا”، أم أن الفيلم يُشير إلى مرحلة تاريخية من القيم المتهافتة؟ هذه الأسئلة تُترك معلقة، لأن الفيلم، رغم كل إسرافه في الوقت والصورة، لا يعالج الفكرة المركزية التي بدأ بها إلا من السطح. نحن نعلم منذ البداية أن الشهرة سلاح ذو حدين، وأن التلاعب بالمحتوى مهنة، وأن القيم صارت عملة نادرة. لكن ما الجديد الذي يقوله الفيلم؟ للأسف، لا شيء كثير. أحلام العصر فيلم طموح، جريء، متقن في بعض تفاصيله، لكنه مفرط في ثقته بقدرته على إدهاش المتفرج، حتى نسي أن الفن ليس في المرآة بل في ما تعكسه. لقد تحولت التجربة إلى مرايا كثيرة بلا ملامح، وفوضى فنية أقرب إلى السريالية المنفصلة عن الواقع، لا تلك التي تنبع منه وتعود إليه. الفيلم ينجح في كشف زيف الشهرة، لكنه يقع في فخ مشابه حين يحوّل السينما إلى لعبة شكلانية فارغة من العاطفة. لو قُدِّم الفيلم في نصف مدته، وبتناول أكثر اقتصادية وعمقًا، لربما خرجنا بتحفة تعرّي زماننا، ليس بعرض طويل لحلم كان يمكن أن يُروى في خمسين دقيقة فقط.