ابتسامة العقد!

 في الثاني عشر من يونيو ٢٠٢٣م نزلت في مطار مانشستر، وكان في استقبالي مشرفة النشاط بالمعهد. امرأة تبدو من ملامحها الوادعة مسكونة بالعطف والحنان الأقرب إلى شعور الأم. ناولتني  حقيبتي وبطاقتي، ثم طلبت مني صورة سيلفي مصحوبة بابتسامة رسمية كانت هي بوابة دخولي إلى هذه المدينة الحالمة، وقد قبلت بهذا الإجراء الروتيني باعتباري طفلا جديدا يدخل الروضة في العالم الآخر، ويتلمّس معالم الأشياء بأسمائها ومسمياتها، بدءا من التفاحة إلى شجرة الصنوبر، وباعتبار آخر هو شعوري أن هذه المرأة ستكون أمي الثانية في هذه الرحلة، فمن الواضح أن ابتسامتها الوادعة ستكون دليلا لي في دروب هذه المدينة. حين وصلت إلى المجمع السكني استقبلني المشرف بملامح بريطاني صرف بدا لي أن أصوله بولندية من لون البرودة العالية التي تكسو تضاريس جسده، ثم بعد مداولات فهم أنّي حاجز مسبقا، واتجهنا معًا إلى الغزفة رقم ثمانية. أوّل ما دخلت الغرفة لمحت طقم سكاكين من النوع الفخم اللامع، تكفي واحدة منهنّ لتوزيعي داخل الثلاجة المجاورة، ولكني تغافلت عن ذلك وتماسكت، وقلت في نفسي: لماذا تقدّم سوء الظن أيها البدوي الغريب؟ ألا يمكن أن تكون هذه السكاكين مجرد أدوات لتقطيع اللحم والبصل وفرم الملوخية؟  فتجاوزت هذا الشعور باقتدار، ثم أمضيت ليلتي غارقا في نومة هادئة إلى أن أسفر الصباح. عند الساعة الثامنة هرولت إلى محطة الباص في الطريق إلى المعهد، فتاهت بي خارطة قوقل إلى أن أوشكت بطارية الجوال على الانتهاء، فتذكّرت على الفور البطارية المساندة. وضعت يدي في الحقيبة وأخرجت البطارية ثم وضعت السلك في الجوال فأضاء من جديد، وكأنما نفثت فيّ الروح، فخطر في بالي أنني كائن رقمي بامتياز، وأن هذا الشاحن، في هذا العالم الصناعي، أهم من مورد الماء في صحراء العرب، فمن فقد شاحنه لا يبعد أن يوجد مطروحا على الطريق، تصفر الريح في جسده الخاوي. وحين وصلت إلى المعهد رأيت مشرفة النشاط في المعهد، فعاتبتها بكلمات عرنجيّة، هي إلى الإنجليزية أقرب، فابتسمتْ وكأنها تقول: انتهت علاقتي بك بعد ابتسامة السيلفي، وهنا شعرت باليتم وقلت في نفسي: ما حكّ جلدك مثل ظفرك. فقررت منذ تلك اللحظة أن أعتمد على نفسي في سبر الطريق، والتعامل مع التقنية، وألا أثق في أي ابتسامة رسمية ضمن بنود العقد!