الجهل القطاعي.. قرارات مرتفعة الكُلْفة ونتائج محدودة الأثر.

حينما تتنامى التقنيات والمعارف بوتيرة مذهلة، تظهر إلى العلن في المجتمعات المتحضرة ظواهر مثيرة للانتباه. تتمثل في تزايد الفجوات المعرفية بين القطاعات المختلفة. حيث نرى أصحاب كل قطاع يحرزون مستويات عالية من الخبرة والمعرفة في مجالهم، وفي المقابل تغيب عنهم المعرفة بمفاهيم وأسس القطاعات الأخرى. ذات مرة، وبصفتي مهتم بالقطاع التعاوني تحدثت في حضرة ذي شأن، فوجدت صعوبة بالغة في توضيح أساسيات هذا القطاع له، ثم حزنت وأدركت أن أمام «التعاونيين» طريقًا طويلًا لتحقيق رؤيتهم. وفي مرة أخرى حدثني صديق مهتم بالقطاع الرياضي، ولما لم يجدني متفاعلًا معه بالحد الأدنى من الحديث، لقصور باعي في الرياضة، وقلة حظي منها، ظن أنني غير متفقٍ معه في طرحه، أو مشجع لنادٍ آخر، وبدت عليه علامات الغضب والشرهة، وبعد هذين الموقفين، ومثلها العديد من المواقف المشابهة، توصلت إلى قناعة تامة بأنه لم يكن هناك داعٍ لحزني، ولا موجب لغضب صديقي، بل «إن في الفخ أكبر من العصفور» كما يقول المثل الشعبي، وتوصلت إلى قناعة بأن المجتمعات الحديثة تعيش ظاهرة جهل متبادل بين القطاعات، فابْتَكَرْتُ لها مصطلحًا جديدًا أسميته «الجهل القطاعي Sectoral Ignorance» ولعل هذه التسمية تمثل إسهامًا جديدًا لم يسبقني إليه أحد. وأعني بهذا المصطلح – الجديد - الجهل الذي يهيمن على شريحة ما حيال القطاعات التي لا تنتمي إليها أو لا تمسّ اهتماماتها المباشرة. ليشمل الجهل المتبادل بين قطاعات المجتمع بأكمله. وهنا تجدر الإشارة إلى أن «الجهل القطاعي» يختلف عن «علم الجهل «Agnotology الذي يركز على الجهل المتراكم لدى بعض الناس، أو المُصَنَّع لأغراض معينة. لنتأمل مثلاً كيف أن خبراء الاقتصاد قد يتخذون قرارات دون الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات الاجتماعية، بينما نجد خبراء التنمية الاجتماعية - قد - يجهلون أهمية الرياضة في بناء المجتمعات، ونقل الثقافات. هذا الجهل المتبادل ليس مجرد نقص في المعلومات، بل هو ظاهرة معقدة تنبع من طبيعة التخصص الحديث، وهياكل المجتمع المعاصر. ففي عالم يتسارع فيه الإيقاع ويزداد فيه التنافس، يجد المختصون أنفسهم مضطرين للتركيز على مجالاتهم فقط – دون غيرها - لمواكبة التطورات السريعة. عندما نتعمق في أسباب تكون «الجهل القطاعي» نجد أن هناك عدة عوامل متداخلة تسهم في نشوء هذا النوع من الجهل، وهي عوامل تتراوح بين الهيكلية والثقافية والتعليمية. وبالرغم أن التخصص العميق أمرٌ محمود، بل مطلوب، وأصبح ضرورة حتمية بسبب تعقّد المعرفة وتشعّبها، إلا أنه يُعد من أبرز العوامل التي أسهمت في نشوء «الجهل القطاعي» في العصر الحديث. وتلعب الهياكل التنظيمية المنعزلة دورًا مهمًا في تعميق «الجهل القطاعي» في معظم المنظمات، سواء كانت حكومية أو خاصة، حيث تتراكم المعرفة في منظمة ما، دون أن تتدفق إلى المنظمات الأخرى. كما يُسْهِم ضعف التواصل بين القطاعات في تفاقم المشكلة. فالمؤتمرات والندوات غالبًا ما تكون متخصصة، حيث يجتمع أصحاب نفس التخصص لمناقشة قضايًا تهم مجالهم. ونادرًا ما نجد فعاليات تجمع بين تخصصات مختلفة لمناقشة القضايا المشتركة. هذا القصور في التواصل بين القطاعات يَحْرِم كل قطاع من فهم مبادئ وأساسيات القطاعات الأخرى، والاستفادة من خبراتها وتجاربها الثرية. كما تسهم ضغوط الوقت ومحدودية الموارد في تعميق الهوة بين القطاعات الأساسية. إن تحييد «الجهل القطاعي» يستلزم تضافر الجهود عبر مستويات عدة، تبدأ بالتعليم، وتمتد إلى التنظيم، وتنتهي بالثقافة، دون المساس بأهمية التخصص، فهو ضروري، بل مطلوب ومفيد جدًا، مع توازن بين التعمق في التخصص والتوسع في المعرفة. فالمجتمعات تحتاج إلى مختصين يفهمون تخصصاتهم بعمق، ويدركون ارتباطها بالتخصصات الأخرى باتساع. وهنا لا أطالب المتخصصين بالخروج من الصوامع المعرفية، لكنني أتمنى أن يكون لها نوافذ تُطِل على الصوامع الأخرى، لكي تكون حبال الوصل بين جميع القطاعات ممتدة، ومترابطة، فيتم التلاقح بين القطاعات، ثم تتخلق النهضة الكبرى. حقًا إن غياب الوعي بظاهرة «الجهل القطاعي» يُفضي إلى قرارات مرتفعة الكلفة، ونتائج محدودة الأثر، حيث قال الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه 1844 – 1900م»: من يعيش داخل إطار ضيق لا يرى اتساع الحقيقة. لوحظ في «سنغافورة» جهل الموظفين العموميين بعمل الوزارات الأخرى. ولأجل تهشيم جدران هذا الجهل أطلقوا مبادرةً تدريبيةً إلزامية لكبار الموظفين لفهم أساسيات القطاعات الأخرى. والنتيجة تبلور ثقافة الموظف الحكومي المنفتح على تعدد الخلفيات، وتنوع الاهتمامات، بما يكسر الحواجز القطاعية التقليدية.