الفصول والجمل ... مركز الملك فيصل يعيد اكتشاف كنز نحوي نادر بعد قرون من النسيان.

يمثل حلقة وصل بين اثنين من أمهات كتب النحو العربي..

أصدر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية عملًا نحويًّا فريدًا من تراث المدرسة الأندلسية، في ثلاثة مجلدات علمية محققة، بعنوان: «الفصول والجمل في شرح أبيات الجمل وإصلاح ما وقع في أبيات سيبويه وفي شرحها للأعلم من الوهم والخلل»، من تأليف النحوي الأندلسي ابن هشام اللخمي (ت. 577هـ)، وتحقيق الأستاذ الدكتور عياد بن عيد الثبيتي. يأتي هذا الإصدار ضمن سلسلة «مجلة الدراسات اللغوية» التي يعكف المركز على تطويرها بوصفها منصة مرجعية لإحياء علوم اللغة العربية في مستوياتها الأكاديمية العليا. يمثّل هذا الكتاب حلقة وصل بين اثنين من أمهات كتب النحو العربي: الكتاب لسيبويه، وهو النص المؤسس للنحو العربي في القرن الثاني الهجري، والجمل للزجاجي، أحد أهم المتون التعليمية التي شكّلت وعي النحاة في القرون اللاحقة. وقد عمد ابن هشام إلى تتبع الأبيات النحوية الواردة في هذين العملين، بالشرح والتصحيح، مع نقد علميّ دقيق لما ورد في شروح الأعلم الشنتمري، كاشفًا عن مواطن الخلل والتوهم، ومقترحًا إصلاحات لغوية دقيقة تنمُّ عن رسوخ قدمه في علوم العربية. وقد بلغ من تمكن ابن هشام في التعامل مع الكتاب لسيبويه، أن استدرك عليه في أكثر من اثنين وستين موضعًا، استدراكًا علميًّا دقيقًا لم يكن بدافع المعارضة، بل بهدف التقويم والتوضيح. وقدّم في ذلك تحليلًا يُظهِر دراية عميقة بالشواهد الشعرية، وبنية التركيب النحوي، وخصوصيات الاستعمال العربي القديم. واتّسمت استدراكاته بالهدوء، والاعتماد على فهم دقيق لمناهج الاستدلال عند سيبويه، وهو ما يمنح عمله طابعًا نقديًّا نادرًا في الأدبيات النحوية الأندلسية. لم يكن هذا العمل مجرد شرح تقليدي، بل هو منظومة متكاملة من التحليل النحوي والرؤية الفلسفية والتأصيل اللغوي. وقد أحصى المحقق الشواهد الشعرية الموزعة في الجمل، وقارن بينها وبين رواياتها في الكتاب، ووقف عند تأويلات ابن هشام وتصويباته، بما يعكس رؤية نحوية مستقلة تجاوزت مجرد التلقي، إلى محاولة بناء نسقٍ لغويّ بديل قائم على الفحص والمراجعة الدقيقة. وألحق المحقّق بالكتاب دراسات تمهيدية، وفهارس علمية، ومعاجم للأبيات والمصطلحات، عزّزت من قيمة العمل وسهّلت التعامل معه أكاديميًّا. وقد شكّل هذا الإصدار ثمرة جهود علمية امتدّت لسنوات، اعتمد فيها المحقّق على عدد من النسخ المخطوطة النادرة المحفوظة في خزائن المغرب والأندلس، وكان أبرزها نسخة محفوظة في خزانة جامع ابن يوسف بمراكش، رغم ما شابها من طمْسٍ وتآكُلٍ. وقد جرى ترميم النص بدقّة، واستدراك مواضع السقط، وتعليق الإشكالات، ومقارنة الروايات، بما أعاد لهذا التراث هيبته وسياقه الكامل. وفي هذا السياق، أورد المحقّق في المقدمة تحليلًا نقديًّا لتحقيقيْنِ سابقين للكتاب، أنجزهما كلٌّ من الدكتور محمد العمودي والدكتور محمد الشقيران، مبيّنًا ما شابهما من مشكلات منهجية، وسقط في النصوص، واعتماد على مصادر ضعيفة أو وهمية، وأخطاء في الضبط والتأويل، إلى جانب نقص في التوثيق أو توهّم في نسب بعض الآراء. وقدّم المحقق هذه الملاحظات بوصفها جزءًا من واجب الضبط العلمي، وحرصًا على تقديم نصّ أقرب إلى أصله المخطوط، وأكثر وفاءً لبنية التفكير النحوي الأندلسي. ويعكس هذا المشروع توجه مركز الملك فيصل إلى إعادة إحياء متون التراث العربي واللغوي، بوصفها مادةً أصيلة لتأصيل المعرفة، وربط الحاضر بالعمق الحضاري الممتد. وقد جاء هذا الإصدار بدعم وتوجيه من صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، ورعاية من صاحبة السمو الملكي الأميرة مها بنت محمد الفيصل، الأمين العام للمركز، في إطار مشروع علمي متكامل يهدف إلى تعزيز دور المركز في خدمة التراث العربي والإسلامي، وتوفير مصادر موثوقة للباحثين والمؤسسات الأكاديمية