المثقفون راسبون.

قبلَ ذلكَ كتبتُ مقالة عنونتها: (فليغضب المثقفون)، وكنتُ وجدتُ في نفسي شيئًا على نفسي، ولكن آثرتُ الصمتَ حتى حين، وبعد ذلك الحين، وجدتُ أنّ نفسي على حقّ، ذلك أنها صدقت معي، وأثبتت الأيامُ صدقَها، والذي عليه القول في هذه المقالة: إنّ المثقفين راسبون، ولم ينجح إلا قليلٌ منهم، وهم إلى الزوال أقرب، ولقد قرّ في نفسي أنّ الأيام تؤكد هذا وأنّ الفعل الثقافي لم يجرِ أي تعديل على واقع المثقفين وأفكارهم وتعاملهم وارتقائهم في فهم الثقافة والأدب وما يدور بين راحها، وأنّ الثقافة إنما أصابت كثيرا منهم بالغرور وارتكبت في حق المجتمع حماقة أن نصّبتْ بعضهم مثقفًا؛ لأنه قرأ كتابا أو كتابين أو نال شهادة أو شهادتين، فما زال بعضهم في برجه العاجيّ متفردًا في صومعته غارقًا في كآبته ووهمه. وحسبُك إنْ شئت من قبيل التمثيل هذا الادعاء الذي تقرؤه في منصات التواصل الاجتماعي لتدرك أنّ هذه الكتب التي قُرِئتْ لم تكن إلا مجرد أوراق طُويت وصفحات نُسيت، وأنّ الحدث الثقافي إنّما هو وهمٌ لبلوغ غاية أو نيل مكانة أو تحقيق منالٍ، وأن هذه العقول التي تقرأ تنسى أنها قرأت –إن أحسنت بها الظن - ولا تدرك ما تقرأ - إن أردت أن تسيء الظن -، وما كان هذا التشرذم الثقافي حول روايات إلا دليل جهل مركب، فهي روايات أقل ما فيها أنّه تدل على اهتراء التعليم وتهاوي أركانه، وتدنّي حصيلة الطلاب، وخواء المقررات الدراسية، وضعف المعرفة فيها، ونفوق أهل الأدب من أروقتها، وما كانت هذه الشللية التي تتكاثر أشكالها إلا قصور عقل ومركب نقص، وحسبك من فئام تجتمع بين الفينة والأخرى على مآدب الكلام المكرر والقول المعاد، يتداعون في كل نادٍ، ويتنادون في كل واد، وهم أنفسهم يتكررون، وكأنهم في دائرة ولائم كل حين تدور على أحدهم، يتعازمون بين الفترة والأخرى ادعاء للكرم وتلبسًا للثقافة، ثم يأتي منهم من يتكلم في كل ملتقى ويتحدث بعد كل جلسة وتأخذه شهوة الحديث إلى أن يكرر ما يقول وينسى ما قال، وإذا قُدّم عليه غيره، شالت نعامته وغضب فلا بدّ أن يكون الأول في كل مداخلة، ولا بدّ أن يكون مقدار مداخلته أكثر من المتحدثين الرسميين في كل جلسة، والأعجب من ذلك من تراه يقدم بحثا أو ورقة في كل ملتقى، وفي أبواب متنوعة ومعارف مختلفة ومحاور متباينة! وحسبك مرة أخرى ما يبصره العارف من أحوالهم فمنهم من يستجدي الدعوات في كل مناسبة ثقافيّةٍ حتى لو لم يكن له فيها لا ناقة ولا جمل، ومنهم من اعتزل القوم لأنه لم يشعر بوهم التقدير الذي يطلبه، ومنهم من ارتخت حباله وتقطعت أوصاله كسلا وعجزا فإن دُعيَ لا يحضر وإنْ حضر تذمّرَ وإن لم يدعَ تسخّط، وإن تكلم أطال وأساء، وإن منعه مانع تافه كزواج بنت جيران خالته، أو مباراة كرة قدم لأندية لا تُعرف أسماؤها، أو اجتماعِ صحبة تتردد بين أحاديثهم رواية البؤساء، قدّمه على همه الثقافي الذي يرفع فيه عقيرته، فلا تعجب بعد ذلك إذا رسب المثقفون! أما الحال الأخرى المتردية لدى بعض المثقفين فتتشكل في فئام أخرى، وهو ما يمكن وصفه بالوهم الثقافي الذي امتلأت به المقاهي، فإنه ما يفتأ إلا ويتوهم فئة يتجمعون تحت اسم هو أكبر منهم فيقيمون ناديًا أو منتدىً، يحسبهم النّاظر والسامع أنهم أصابوا الوعي في ناديهم، ولكنهم كالوجبات السريعة سرعان ما تنتهي فلا تسمن ولا تغني من جوع، إن قرأت لهم أصابك الملل، وإن استمعت إليهم أعجزك الفهم، وإن حضرت معهم أُصبت بالإعياء، من قرأ منهم كتابا بلغ به من العلم مبلغ الجهلاء، يحسبون تجمعهم إنما هو غاية الثقافة ومبلغ المعرفة ونهاية الأدب، ويظنون أنهم يبصرون وهم لا يبصرون، ويعتقدون أنهم يتألقون وهم مظلمون، وتجد لكلّ فئة مجتمعهم فلا يحضرون لقاء فئة أخرى، وكأنهم يتنافسون على سراب، ويحسبون أنّ إقصاء المجموعة الأخرى نصرٌ لهم. وإذا دعوا لم يحضروا لغير أصحابهم ولم يذهبوا لغير لقاءاتهم، وإنّ المطلع لهم لا يسمع إلا جعجعة ولا يرى طِحْنا. وتراهم قد تسنّموا في ذلك سنام الشريك الأدبي وهو منهم براء بل في حالة يرثى لها، فلا يعرفون أسماء مَن يدعون ولا تاريخهم ولا كتاباتهم ولا كتبهم، فإن حاوروا فأسئلتهم سطحية، وإن تداخلوا فمداخلاتهم ضعيفة، وإن جلسوا اتخذوا من جوالاتهم هروبا من حديث ضيفهم، والتقاطًا لصور وهمهم الثقافي، أما المتحدث في هذه المقاهي فهو إما أن يدعوا أهله وذويه وأصحابه تكثيرا للسواد وشعورا بالأهميّة، وإما أن يكون وحيدا في لقائه ولا تجد حوله إلا مَن دعاه مِن أصحاب المقهى. أما ما يُقرأ بين الفينة والأخرى من كتاباتهم، فإن القارئ لا بدّ أن يلقي رحاله في أرض لا ماء فيها ولا كلأ، فلا تدري هل هذه الأساليب والكتابات والمقالات والمؤلفات هي حصيلة كل هذا العمر من القراءة والكتابة والتأليف! ذلك أني وجدتُ ضعْفًا في الأسلوب وتهافتًا في العبارة وركاكةً في الصياغة في مؤلفات أحسبها لمن وصف نفسه مثقفا وهو من الراسبين. ولا يعزب عن وعي قارئي هنا، أنّ هذا غيض من فيض، وأن واقع الثقافة مؤلم، وأن المثقفين يتوهمون أوهامًا لا علاج لها، وأنّ حقيقة الأمر أن يتولى أمرهم مَنْ يأخذ الأمور على عاتقه لصناعة أجواء صحية بالثقافة تليق بتاريخها الذي أفسده بعض من ادّعى الدخول فيها.