المتحدث الرسمي لوجدان الناس:

المطرب الشعبي الشجاع.. ذاكرة العاطفة وصوت الشارع.

في عالم الطرب ، هناك صوت يصدح خارج الضوابط الرسمية والمجتمعية ، صوت شعبي جريء، حي، يتنفس من قلب الشارع ويعيد تشكيل الحب والمعاناة في صور نابضة ومباشرة ، هذا الصوت هو صوت الفنان الشعبي ، البطل الشجاع في الساحة الفنية ، الذي يحكي قصص الناس بلغتهم اليومية، يروي هموم الناس العاطفية ، ويعبر عن مشاعرهم ، ويوثق يومياتهم ببساطة ألفاظهم الدارجة، بخلاف بعض التعابير الرومانسية الثقيلة التي تهيمن على الأغنية الموسيقية، فاستخدام المفردات الدارجة الشعبية تخلق إحساساً بالقرب والتشابه ، فبعض الأغاني الشعبية عندما تسمعها تشعر كأنها حكاية تروى بسرية في مجلس أصدقاء . الأغنية الشعبية لا تعتمد على مقامات معقدة أو إنتاج ضخم، بل ببساطة العود والإيقاعات والكمنجة، لكنها تملك قدرة استثنائية في توثيق جغرافية المكان وديموغرافيته، كثير من شوارع وأحياء المناطق والمدن في المملكة العربية السعودية وثقتها الأغنية الشعبية. في علم النفس ، تمثل الأغنية الشعبية أداة التطهير النفسيCatharsis وهو المفهوم الذي قدمه أرسطو لوصف التفريغ العاطفي الذي يحدث عند التعرض للفن ، الكلمات الجريئة التي تتحدث عن الحب الصريح أو اللقاءات العفوية تحرر المستمع من قيود المجتمع ، فتتيح له التعبير عن رغباته المكبوتة بطريقة غير مباشرة ، عندما يغني الفنان الشعبي عن لقاء عابر في شارع الخزان أو منفوحة ، يجد المستمع متنفساً لمشاعر وأحداث لا يجرؤ على قولها ، ويجد المستمع تصالحاً مع جزء من نفسه يخجل من الاعتراف به ، فيتحرر من الإحساس بالذنب ويشعر أن تجربته ليست غريبة أو غير مألوفة بل إنسانية . ولأن الأغنية الشعبية ابنة الشارع والسوق والحارة، كانت هذه الأماكن جزءا أساسيا من قصص الأغاني: «يا ليت سوق الذهب يفرش حرير من شان فيه الحبيبة شفتها شفت أنا سارة وأنا بالسوق أسير هي كلمتني وأنا كلمتها». من هنا ومن غيرها من الأغاني تستطيع أن تعرف أن السوق لم يكن موقعاً للتسوق فقط، بل فضاءً اجتماعياً وعاطفياً حياً، وحتى التوقيت، حيث يتكرر الإشارة لفترة العصر في معظم الأغاني التي تتناول السوق، مما يوحي إلى أن هذه الفترة كانت ذروة الزحام والحيوية في الأسواق، فمثلاً لو كتبت أغاني عن الأسواق في الوقت الحالي ستميل للفترة المسائية التي باتت أكثر نشاطاً في التسوق والتنزه. واللافت أن الأغنية الشعبية لا تكتفي بذكر (سوق) مجهول، بل تحدد المكان بدقة، وهذه أحد صور الشجاعة، وكنت أتمنى لو وجد رصد ولو على مستوى المبادرات الفردية عن تأثير هذه الأغاني على حركة الأسواق، وهل زاد الإقبال عليها أم لا؟ هل حدثت ردود فعل اجتماعية، كمنع النساء من ارتياد أماكن وردت في أغاني وصفت بأنها (جريئة)؟ هذه الأسئلة قد تفتح باباً لفهم تأثير الأغنية الشعبية من حيث لا ندري أحياناً على الفضاء العام، وعلى حركة الناس ومواقفهم من أماكن ترتبط بالحب والخوف. وشجاعة الفنان الشعبي حينما دافع عن آلة العود، الآلة التي حوربت من أطياف مختلفة من المجتمع، حينما قال سلامة العبدالله: «أنا البارحة سهران والعود سهراني على شانكم يا ساكنين العزيزية». دلالة ان السهر كان برفقة الاغاني والشجن، وهنا تكشف الاغنية رفقة العود وصداقاته وكأنه كائن حي يجلس معك ليخفف عنك الحزن والضيق، وهذا جانب من رهافة الفنان الشعبي علاوة على شجاعته الذي تغني كثيراً بالعود ورفقته وفضله في حياته. وقد قال الفنان بدر الليمون عن العود: «ما هو غلا يوم اعزف العود للفن ولا أبغي البشر عني يقولون فنان لولا الولي ثم آلة العود لا انجن ألجأ لها لا صابني هم واحزان حبه بجوفي يا مخاليق يسكن أسهر أنا وياه للصبح طربان أنيس ليلي وكل الاوتار يحكن يحكي معي واحكي معه كل الالحان». يشير علم النفس الاجتماعي، أن هذا التعلق الرمزي بالأدوات الفنية يسمى بـالارتباط العاطفي الممتد ( Extended Emotional Bond ing)، حيث يلتحم جزء من الفنان مع العود، فيجد فيه ملاذاً يُخفف وحدته ، والأغنية الشعبية بإبرازها لهذا التعلق، تخفف عن المستمع ضغط المجتمع الذي كان ينظر إلى العازف وآلته نظرة ازدراء، بل يراها (محرمة) وهنا عارض الفنان الشعبي هذا الرفض القاسي بنعومة وهدوء حينما جعل العود شريكاً في الوجدان بدلاً من جعله رمزاً للمجون ، وملاذاً وراحة نفسية وليس أداة للهو فقط ، وحوّل الأغنية إلى مساحة حرة لا ترى في العزف عيباً وإنما شفاء للروح . توثيق التحولات الاجتماعية يقول سلامة العبدالله: «ابكوا معي ياهل القلوب المودة وابكوا تراني مانفعني بكايه لي عن حبيب الروح ياناس مدة معاد شفته يوم لبس العباية«. هنا لحظة توثيق تغير اجتماعي عميق ، حيث تتحول الفتاة من طفلة تلعب في الشارع إلى امرأة تُمنع من الخروج من المنزل ، وهي تجربة عايشها أغلب المجتمع السعودي ، هذه ليست مجرد قصة حب ، بل تحول اجتماعي وثقافي يسجلها الفنان الشعبي بدقة وشجاعة ، والعباءة هنا ليست لباساً بل رمزاً لحاجز اجتماعي وغياب وفقد وما يعتري المحب من هذا التغير الاجتماعي ، وهنا يحصل ما يسمى (الإسقاط العاطفي) حيث يسقط الفرد مشاعره وتجربته على النص والأغنية ، وبما أنها تجربة وقع فيها الكثير ، فهنا يشعر المستمع أن الأغنية تمثله وتخفف عنه وطأة التحولات التي فرضت الغياب والمنع عندما يعرف أن هناك من يعيش نفس تجربته وجرحه العاطفي ، هناك من يتحدث بصوت عالي عن المسكوت عنه . لم تكن هذه الأغاني كسر للمحظور، بل كانت وسيلة لقول ما لا يقال في الفضاء العام الفني والإعلامي، لذا لم يكن يرى الجمهور في هذا القول الذي جاء على شكل أغنية جرأة وتعدي، بل رآه وصف حقيقي للوضع، ويحق للأغنية والقصيدة قول ما لا يحق لغيرهم قوله!! فالفنان الشعبي قال ما في نفس المستمع، لا ما يفترض به أن يقوله لمجاراة الوضع العام. استطاعت الأغنية الشعبية أن تمرر صور اللقاء والجلوس والأحاديث بين المحبين من خلال كلمات ظريفة تحمل طابع الفكاهة والمرح، فتخلق جواً عفوياً من القرب والراحة: “ألا ياسيد كل الناس جمالك جاب لي الوسواس«، إلى أن قال: «تفضل وأشرب الشاهي .. بيالة شاهي ع الماشي ولا تسمع من الواشي .. دخيلك يا كحيل العين». وقال سلامة العبدالله: «ودي بفنجال شاهي بالكاس أو زهرة وردي واللي يصبه شفاهي بيني وبينه مودة » هنا مزج وتداخل إنساني فني عجيب، بساطة وعفوية الحياة، لقاء بسيط، فنجال شاهي، كلمة عابرة، ومشاعر كبيرة تُقال دون أن تزخرف، حضور الشاهي يُظهر الحب كأنه جزء من الحياة اليومية، لا شيء مستهجن أو غريب. واليوم وبعد مرور عشرات السنين تستخدم هذه الأغاني كخلفيات صوتية لتصوير لقطات على أكواب الشاي والقهوة في أفخر الأماكن، وهنا ترى عجائب الظروف والتحولات، عندما تحضر الأغنية الشعبية كعامل رئيسي لإكمال الصورة الشبابية الحديثة. وقال حجاب بن نحيت: «موترن قفى به المحبوب من تحت العمارة موتري عيا يجيبه يا خسارة يا خسارة واعسى الجندي يصيده يوقفه عند الإشارة وألحقه لو ضاع عمري وأوقف الموتر جواره» الأغنية الشعبية تملك حساً سينمائيا الأغنية كأنها مشهد سينمائي متكامل؛ مونولوج داخلي، حركة، توتر، انتظار، خيال درامي، عندما تسمعها تستطيع أن تراها في خيالك من دقة التفاصيل، وهذا يشير إلى أن الأغنية الشعبية ليست عشوائية، بل واقعيتها جعلتها تملك حساً سينمائيا عاليا، حيث تجد فيها الألوان، وحركة الشخصيات، وضيق المكان واتساعه، وكأن كاتب الأغنية مخرج لعمل درامي عاطفي. وهذه الأغاني قدمت الحب في قالب فكاهي مما يخلق ضحك مشترك يسمى (الارتباط العاطفي) يخفف التوتر والقلق، ويجعل أوجاع الحب محتملة حتى في لحظات الحزن والفراق. الفنان الشعبي صنع أرشيفاً للعاطفة السعودية من خلال الحارات والأسواق وأنواع السيارات وأحمر الشفاه وعباءة النساء وغيرها، لم تعد هذه المفردات مجرد كلمات، بل أيقونات عاطفية، تسترجع الذاكرة مشاعر مختزنة لا تذكر الأحداث فقط، بل إحساسها، لذا أضحت الأغنية عبارة عن آلة زمن تثير الحنين وتداعب القلوب، ومنحت المستمع حين صدورها أن حياته ذات معنى وتستحق أن تروى، واليوم يشعرون أنه تم تخليدهم من خلال هذه الأغاني: «أمس الخميس من صباح الله خير زوجة رجل تاجر مع زوجة فقير تهاوشن وصار شي ما يصير يا الله دخيلك من مشاكل هالحريم». الأغنية القصصية الأغنية القصصية الظريفة هي أحد مميزات الأغنية الشعبية التي لم تركن للعاطفة فقط، لذا اعتبرها هي الاغنية الواقعية، من شدة إعجابي بهذه الأغنية حولتها لنص مسرحي، فهي جاهزة للمشاهدة، متغذية بكامل الحركات والحوارات والتحولات، وهناك عدد جيد من الأغاني الشعبية القصصية المليئة بالظرف والفكاهة وتعالج بعض الظواهر الاجتماعية. وأيضاً لم تكتف الأغنية بالفكاهة، بل توجهت لأمور الحياة المختلفة والمهمة مثل التعامل مع إشارات المرور، والتعليم كما جاء في اغنية طاهر الاحسائي. «يا طالب العلم راعي العلم له شان احرص تّعلم ترا للعلم ميدان». علاوة على شجاعة الاغنية الشعبية، أيضاً نزلت للشارع والتقطت قصصهم وحياتهم العامة، فالطرب هو الحياة بكل تنوعاته، وليس فقط الحب والقلب، وهنا مكمن أحد صور الشجاعة والبطولة أن الفنان الشعبي لم يخش على صورته ومكانته، بل تخطى المعتاد في الأغاني وذهب لجهة نقل القصص ونسجها مع ملاحظة استخدام نفس الالحان والايقاعات، فالأغنية الشعبية السعودية ليست مجرد صوت من الماضي، بل وثيقة إنسانية وثقافية واجتماعية، من يظن أنها أغنية بسيطة عن شاهي وشارع وسوق فإنه يغفل عمق الحياة نفسها. كنت أتمنى وجود هواه ومحبين يقرؤون الأغاني ويحللونها، فلو حدث، لامتلأت الساحة الفنية بالحكايات التي نُسجت من الحياة ذاتها. *الرياض.