ليس سيرة ذاتية. وليس كتابًا معرفيًا. بل هو خارج إطار التجنيس. هذا بعض ما يثيره عبدالله الخطيب حول كتابه (في تشكلات الذات ورفض مانحي الدروس-تقرير فكري). وأرى الكتاب سيرة وعي بالذات من خلال التماس بالآخر. وذلك عبر رحلته إلى فرنسا كطالب مبتعث، ثم كموفد للعمل لتعزيز الحضور المعرفي والثقافي ما بين المملكة وفرنسا، خلال ثلاثة عشر عامًا. فهو ابن جيل الأجوبة المفروضة التي قررتها (الصحوة) خارج فضاء الاختلاف. حيث كان الخطاب الصحوي يجاهد لترحيل “المجتمع مبكرًا برمته إلى الآخرة” متناسيًا الماضي وكذلك الحاضر الذي يستوجب “تشييد علاقة سليمة مع العلم والمعرفة والثقافة والانتاج بكل تجلياته”. ولهذا السبب بالتحديد يؤكد على أن خشيته من الماضي أشد من خشيته من المستقبل. بما يختزنه الماضي من براكين خامدة. وذلك من منطلق النظر “بعين الإجلال إلى ذاكرة المجتمعات”. وبمقتضى التحذير من “سوء مقاربة الذاكرة التاريخية للمجتمعات”. حيث يؤسس نظرته لكل تلك الصيرورة “على محك المسألة الأخلاقية”. التي تمثل جوهر كل المعالجات في تقريره الفكري. فالرغبة في هدم المعيار الأخلاقي المتأتي -بتصوره- من بعض التوجهات الفكرية والأيديولوجية، هو السبب في الخسائر البشرية الفادحة. إذ يتكئ في هذا الصدد على معالجات تودورف الأخلاقية، المؤكدة على حتمية الفعل الأخلاقي، وشموله للمجموعات الإنسانية برمتها. إلى جانب ضرورة التصريح بالمسألة الأخلاقية. مع الأخذ بالاعتبار أهمية التفريق ما بين إيجابية الأخلاق، والأخلاقية كفعل سلبي. وإذ يقر بمديونيته للآخر، يستدعي اللحظة التي رفع فيها أرنولد ميونيك مستشار الرئيس الفرنسي للشؤون العلمية صورة ابن سينا أمام جمع علمي طبي كبير (سعودي/فرنسي) بموجب دعوة وجهها إليه باسم الملحقية الثقافية السعودية، مخاطبًا الأطباء السعوديين “لستم غرباء عن الطب والمعرفة. نشعر بالمديونية لكم عبر هذه القامة العلمية والطبية: إبن سينا”. ليؤكد أولًا على القيمة التبادلية مع الآخر. ثم على الوقائع والمواقف التي حدثت له مع “أساتذة اللامتوقع” الذين جعلوه يتعرف على هويته ويتمسك بها في الوقت الذي يضع الآخر في مدار الاكتشاف والتحاور. فهو بقدر ما كان يمثل المملكة ويعتز بما تؤديه وزارة التعليم العالي، وما تنجزه على مستوى الشراكات، كان يؤسس علاقته الذاتية بالآخر. وهو ما يعني أن تقريره الفكري ليس نتاج قراءة مجردة، بل هو نتيجة لخبرة وتجربة في التعامل المباشر والمنفتح مع الآخر. أو بمعنى أدق هو صيغة (بينصية) تفسر الواقع من خلال خزين الفكر والعكس، أي إسقاط الأفكار على الوقائع. والأكيد أن (برنارد قارده) أستاذه في الدراسات العليا في جامعة (روان) هو الشخصية الأهم في تكوين شخصيته المعرفية، من خلال عبارته الامتنانية “رحلتي مع قارده محطة كبيرة في حياتي”. حيث أسهب في التعريف به سواءً عن أخلاقه وطريقة استقباله، أو بقبوله دارسًا للسانيات (تحليل الخطاب). وكذلك بالحديث عن مكانته المعرفية في فرنسا. وبالتأكيد على قيمة التوازن في شخصيته التي جمع فيها الجانبين: المعرفي والإنساني. فهو الذي بدد ارتباكاته وقلقه حول قدراته اللغوية. والأهم أنه هيأه للتعامل مع “الوجود الجديد”. والانفكاك من “صحوة لم تترك فيه أحدًا إلا وحاولت شده بعنف إلى التمركز حول الذات، بناءً على مقولات تتخذ فيها موقفًا متحمسًا، بل إقصائيًا من الآخر في أغلب الأحيان”. إذ كانت دروسه وإشاراته بمثابة علامات تستهويه ويهتدي بها كباحث إلى الخوض فيما يرغب بموجب قيم المعرفة، ومن دون إكراهات خارجية. إلى أن تعرف عبر قارده على “الأخلاقيات اللغوية” التي تشكل العنوان الأبرز لشخصيته. حيث أصدر قبل سنوات كتابه اللافت (في الأخلاقيات اللغوية-مقاربات نظرية وتطبيقية). ببصيرة شاب حائلي يتلمس طريقه في فضاء باريس الثقافي الهائل قرأ إعلانًا عن محاضرة لعالم الاجتماع الشهير بيير بورديو بعنوان (الهيمنة والإذعان). ولأن معرفته بمكانة بورديو آنذاك كانت مجرد معرفة عابرة تعجب من كثرة الطرق من قبل زملائه في مكتبة الكلية حول أهمية حضور المحاضرة. حتى عندما توجه إلى الجامعة واجه ازدحامًا أكثر من المعهود. ولم يكن يتصور أن كل ذلك الازدحام من أجل محاضرة بورديو. وفي الوقت الذي كان يمني نفسه بالدخول إلى القاعة والجلوس على أقرب كرسي تفاجأ بأن بينه وبين الصالة مسافات، ولن يتمكن من الاستماع إلى المحاضرة إلا عبر سماعات خارجية توزعت بكثافة خارج الصالة، وقد احتشد حولها طلاب تحملوا مشقة الوصول. حيث شكل هذا المشهد له صدمة غيرت حساباته وفرضت عليه إعادة النظر في مرجعيته الثقافية. فقد أوحى له ذلك المشهد بأن المعرفة تتشيد على قاعدة الحب “حب المعرفة أحد أهم شروط تحصيلها”. كما دون خلال استماعه للمحاضرة مصطلحًا تردد كثيرًا، وهو مصطلح “رأس المال الرمزي” دون أن يفهمه. ولم يكن يعلم حينها أنه كان يدون واحدًا من أهم مصطلحات علم الاجتماع في العصر الحديث. باريس ذات الجمال المائي المتدفق، بالنسبة لعبدالله الخطيب “غير الباريسيين”. فهي مدينة تجمع المتناقضات “فيها أجمل الأحياء وأقبحها. تحوي أجمل الشوارع وأقذرها. تسكنها أجمل الشخصيات الفكرية وأحقرها على الإطلاق”. هكذا صقلته التجربة ليميز ما بين باريس والباريسيين “فمفتاح العلاقة الجيدة مع معظم الباريسيين أن تتظاهر بالغطرسة عليهم ليعترفوا بوجودك”. أما فرنسا ذاتها “فهي بيت خبرة عريق في العنصرية وممارساتها في الماضي والحاضر”. كما ذهب “ المجتمع الفرنسي ووقائع الحياة اليومية بكلمة (عربي) إلى مناطق لا يمكن أن يتصورها من لم يعش في فرنسا” لدرجة أن العربي يضطر إلى تغيير اسمه حتى لا يتعرض للاضطهاد والتمييز العنصري. وقد عالج ذلك التمادي العنصري بتعمق في فصل بعنوان (أغاب-العربي في فرنسا). هنا تكمن المفارقة، فمن أراد أن يرتوي من باريس الآسرة “ فالمعاني طاغية، باذخة، تصنع الكاتب، تستر عيوبه، حتى لو كانت أدواته بسيطة، إذ أنه غالبًا ما يكون لما يكتب نوع من الوجاهة، لأنه يكتب باريس”. أما المكان الذي تتجسد فيه كل صفات باريس فهو المقهى بتعدد ألوانه وأنساقه “المقهى في باريس وكر، ارشيف، وموطن سام لكثير من الخطابات الإنسانية الحاسمة، والمؤامرات”. وإن كان تغنيه بباريس الثقافة لا يخلو من نبرة رثائية التي باتت تعاني من ضمور ثقافي محتم بمهبات الحمى الاستهلاكية التي تمكنت من إغلاق المكتبات لتكثير صالونات الحلاقة ومختلف صرعات اللحظة. أما الفصل الذي يتجادل على مساحة واسعة مع عنوان الكتاب (رفض مانحي الدروس) فهو فصل بعنوان (مفكرون جدًا ومنحطون جدًا) الذي يتحدث فيه عن مجموعة (الثمانستينيين). أي شباب ثورة مايو 1968 م، الذين صاروا فيما بعد طليعة فكرية مثل فوكو وسارتر ودولوز ومازنف وبارت. حيث يقر بمأزق شخصي أخلاقي عميق إزاء فكرهم مقابل ممارساتهم “بقدر ما أشعر بمديونية فكرية أساسية وإنسانية لمجموعة من هؤلاء المفكرين إلا أنني في الوقت نفسه أشعر برفض شديد لممارسات هؤلاء المفكرين والأدباء على المستوى الأخلاقي من زوايا محددة”. بالنظر إلى تموضعه داخل النسق الأخلاقي الذي يؤمن به. فهو مع القول “من منا لم يستفد من فوكو؟”. فهو الفيلسوف الذي فرض خطابه على كل الباحثين. وله فضل كبير في “نصوص مؤسسة شكلت منعطفًا في حقولها”. وهو المناضل في القضايا الإنسانية. ولكن ثمة فوكو آخر، لا أخلاقي، منحط، يصوًًًّت على عدم تجريم ممارسة الجنس مع الأطفال القصر. وهو “داعية كبير ومحرض على أن اللذة تولد من شطب كل القيود الأخلاقية”. وفي هذا الصدد يستدعي الخطيب شهادة الشاب هيرفي جيبيير، صديق فوكو، الذي مارس عليه ساديته ومازوخيته الجنسية. وذلك من خلال روايته (صديقي الذي لم ينقذ حياتي). حيث مات بعد موت فوكو بفترة قصيرة بمرض الأيدز، كضحية من ضحايا مبدأ اللذة الفوكوية. ولذلك سمح لنفسه بكتابة مصيره عبر رواية موجعة “إنني أكتب موتي”. هناك قضية أخرى تتحرك في ذات المدار الأخلاقي وهي قصة الأديبة والمخرجة الفرنسية فانيسا سبرينغورا، التي أصدرت كتابًا بعنوان (برضاء الجميع) أحدث هزة في الأوساط الأدبية والفكرية الفرنسية. وقد تحدثت فيه عن تفاصيل علاقتها بالكاتب الفرنسي الشهير غابرييل مازنف عندما كانت في الثالثة عشر من عمرها فيما كان عمره يتجاوز الخمسين. باعتباره أحد أقطاب (الثمانستينيين). حيث استدرجها عبر آليات مكر ثقافية استخدم فيها أدواته الفكرية والمنهجية للإيقاع بها والسيطرة عليها. فهو أحد أنصار “ممارسة اللذة بلا حدود”. كما تبنت خطابًا يدين أولئك المفكرين المتواطئين على فكرة تجويز التحرش الجنسي بالأطفال. وهنا يصف الخطيب كتابها بأنه “كتاب مستفز، ومقزز، ومرهق جدًا على المستوى الإنساني” انطلاقًا من نظرته الجوهرية للمسألة الأخلاقية. إذ يدين سلطة المثقف القادر على النجاة من المحاسبة. وينبه إلى خطورة المثقفين المصابين برهاب الأخلاق، الذين يرون أنفسهم فوق المساءلة القانونية والأخلاقية. هكذا كانت رحلته في عمق المجتمع والثقافة الفرنسية. خصوصًا فيما يتعلق بحرية التعبير. حيث اختزن تمثلات غير مختبرة حول الفن والأدب الفكر، إلى أن بدأت تلك الصور المموهة تتكشف أمامه من خلال خبرات واقعية. فعندما التقى صديقه (سمير) الذي يحضر دراسته العليا حول الأديب الفرنسي الشهير (سيلين). ومن خلاله تعرف على الصعوبات التي يعانيها نتيجة ذلك الخيار الأدبي. على اعتبار أن سيلين من المحرمات في فرنسا نظرًا لاتهامه باللاسامية. لدرجة أن مقترح وزير الثقافة الفرنسي فريدريك ميتران بتكريم قامة أدبية عظيمة مثل سيلين ووجه بالرفض والتوبيخ كإعلان صريح لانهيار المعايير وانطفاء حرية التعبير. وهو الأمر الذي تكرر مع الكاهن (بيير) الذي كان يوصف بأنه “أكثر شخصية محبوبة في فرنسا”. بالنظر إلى حضوره الإنساني واهتمامه الدائم بالمهمشين، إلى أن أعلن تأييده لأطروحة المفكر الفرنسي روجيه غارودي (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية). وحينها فُتحت النار عليه. كل تلك الآراء والقضايا عالجها عبدالله الخطيب بدراية بحثية لافتة. وبمقاربات ثقافية فاحصة. وهذ هو ما يفسر حضور صوته بقوة في كتاب مزدحم بالمعلومات والأسماء والمواقف والاستشهادات التي تحيل مجتمعة إلى تموضعاته الأخلاقية والمعرفية. كما يعكس قدرته على التعاطي كمثقف مع منتجات الآخر التي تبدأ بحالة من التعرف على تلك المنتجات وربما الانبهار بها، ثم استيعابها كقيم فكرية، وصولًا إلى التمكُّن من الرد عليها أو محاورة منتجيها عبر ذات لا تنفي مديونيتها للآخر، وفي الآن نفسه تعطي لنفسها الحق في مساءلته أخلاقيًا في المقام الأول، والتعليق على مكتسباته الفكرية من موقع العارف.