
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الاقتصادية والتقنية والقِيَمِية، حيث تزداد المباني بذخًا، وتتسارع السيارات فخامةً، وتتضاعف الأجهزة ذكاءً، تقف الأسرة – تلك الوحدة الأولى التي انبثقت منها الحضارة – على مفترق طرق حاسم، ولم يعد دورها مُقَدَّس، ولا مكانتها مصانة كما في السابق. ففي ظل صعود الفردانية، وهيمنة الاقتصاد الاستهلاكي، باتت الأسرة مهددة بفقدان دورها الارتكازي في بنية المجتمع، ما يستوجب إعادة التفكير الجاد في ترتيب أولويات السياسات الاجتماعية، ليس فقط لصالح الأسر ذاتها، بل من أجل إعادة بناء التماسك الوطني الذي بات هشًّا في كثير من دول العالم. الأسرة هي وحدة التكوين الأولى للمجتمع، وقد قال ابن خلدون – رائد علم الاجتماع – في مقدمته “من لم يتعلم في بيته، لم يتعلم في مدرسته”. بهذه الرؤية العميقة يلخّص ابن خلدون دور الأسرة بوصفها الحاضنة الأولى للقيم الإنسانية والتنشئة الاجتماعية. إنها ليست مجرد رابطة بيولوجية، بل مؤسسة قادرة على نقل الوعي الجمعي، وتشكيل الهُوِيَّة الوطنية، وغرس المسؤولية المجتمعية. ولكن، ما الذي يهدد هذه الوحدة اليوم؟ لم تعد الأسرة في العصر الحديث تعاني من غلاء المعيشة فحسب، بل من تغيّر نمط الإنتاج والعمل ذاته، فقد أدى التوسع في الاقتصاد الرقمي، وتضخم المدن، إلى تآكل الوقت المشترك بين أفراد الأسرة، وارتفاع معدلات التفكك الأسري، وتأخر سن الزواج، بل والعزوف عنه أحيانًا. تبدو الأسرة الحديثة متقاربة جسديًا، لكنها متباعدة ذهنيًا. فبينما يجتمع أفرادها في مجلسٍ واحد، تجد الأب يبحلق في هاتفه غارقًا في شاشة صغيرة سرقت انتباهه عمن حوله، وتتابع الأم ما يسمّى بالمشاهير، بينما الأبناء غارقون حتى الأذقان في بحر الرياضة. العزلة الرقمية باتت إحدى صور التفكك الصامت. ويُحَذِّر الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور من “الانكفاء الذاتي” الذي يعززه العالم الرقمي، حيث يفقد الفرد حسّه بالانتماء الكلي. وإن لم تكن الأسرة قادرة على إعادة خلق هذا الانتماء، فإن العزلة ستنتج أجيالًا مُنْبَتَّة الجذور، مفككة الأوصال. يُبرز فيودور دوستويفسكي في روايته “الإخوة كارامازوف” كيف أن غياب الأبوة المسؤولة يؤدي إلى انحراف الأبناء، ليس أخلاقيًا فحسب، بل وجوديًا. إذ يتحول الإنسان إلى كائنٍ متشظٍ، فاقد للإطار القيمي. وهو ما يحدث اليوم في كثير من البيئات الحضرية، حيث يستعر السباق في ميدان الاستثمارات المادية فقط، بينما البنية القِيَمِيَة تتآكل بصمت. لقد أفرزت تيارات ما بعد الحداثة تصورات سلبية حيال مؤسسة الزواج والأسرة التقليدية، فأسهمت في تفكيك مرتكزاتها الأساسية، وأمعنت في خلخلة مكانتها في الوجدان الجمعي “ وقد انعكس هذا التحول بشكل جلي في دول مثل السويد والنرويج، حيث تجاوزت نسب المواليد خارج مؤسسة الزواج 50%، ما دفع الباحثين هناك للحديث عن “عصر ما بعد الأسرة”. ولهذا ينبغي أن يُنظر إلى الأمهات والآباء لا كمستهلكين، أو موارد بشرية فحسب، بل كمنتجين رئيسيين في “الاقتصاد القِيَمِي” فالإرهاق العاطفي الذي يصيب الأسرة المعاصرة لا يقل خطرًا عن الإنهاك الاقتصادي. وفي هذا السياق، يحسن بنا أن نستعيد قول جبران خليل جبران في كتابه (النبي) “إن أولادكم ليسوا أولادًا لكم، إنهم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها “. إن التحدي الأكبر اليوم يتمثل في كيفية دمج الأسرة في منظومة التنمية، لا بوصفها عنصرًا تابعًا، بل كفاعل أصيل في إعادة بناء القيم السامية. فالأسرة ليست كيانًا خاصًّا منعزلًا، بل هي البنية التحتية للثقافة الاجتماعية والسياسية. ولكل هذا وذاك أعلنت الأمم المتحدة تخصيص يوم 15 مايو من كل عام يومًا دوليًا للأسرة، مؤكدة أن “المساواة بين الجنسين، ومشاركة المرأة على قدم المساواة في العمل، وتقاسم مسؤولية الوالدين هي عناصر جوهرية في سياسة الأسرة الحديثة. إن هذا اليوم لا ينبغي أن يُمرّ كفعالية رمزية، بل كمنصة سنوية وطنية لإعادة تقييم حال الأسرة، وصياغة سياسات تدعم تماسكها في وجه التحديات الاقتصادية، والرقمية، والقيمية.