
“اقرأ” هي أول كلمة أوحاها الله جل جلاله و تقدست أسماؤه من خلال جبريل عليه السلام إلى سيدنا أشرف الخلق و خاتم النبيين محمد صلى الله عليه و سلم، كلمة واحدة لخصت الكثير من الحكم و المعاني و العبر. هي أول كلمة في القرآن الكريم الذي أعد العقول و القلوب و الأرواح بأبهى المفاهيم المتعلقة بالدنيا و الآخرة، هو خير الكلام و أعظم ما قيل في العقيدة و الأخلاق و الأدب و السلوك، و فيه حكمة واضحة و صريحة عن أهمية القراءة، و كونها عماد لبناء الحضارات و ترسيخ الثقافات، بالإضافة إلى كونها أقوى وسائل صناعة العقول و الارتقاء بالبشر من ظلم الجهل إلى نور العلم. القراءة عملية بصرية و ممارسة تعليمية و مفتاح حرية، هي سلوك يرتكز على مبادئ عدة، منها تلك المتعلقة بتأثير الاستمرارية في القراءة و التصفح على المخزون المعرفي للقارئ و قدرته على استيعاب النصوص المتنوعة بكفاءة أعلى، بالإضافة إلى تحسين جودة نطقه للأحرف و العبارات، مما ينعكس إيجاباً على ثقته بجدارته كقارئ، ليتقدم في مراحل تطوره من فترة ما قبل القراءة إلى القارئ و من ثم القارئ المبتدئ و القارئ الفاهم و القارئ بليغ الفهم و أخيراً القارئ الخبير. لعل أسمى هذه المبادئ هي الفوائد المرجوة من تلك القراءة، لابد أن يرتحل القارئ إلى مدائن النصوص المتواجدة في الكتب و لابد أن يغلق بنفسه الستار على آخر صفحة و آخر حرف في هذا الكتاب الذي بين يديه و عقله مفعم و مشبع بجل من الدروس المستفادة و بوافر من الأفكار التي ستكون عوناً له على تطبيق ما تعلمه و استنبطه في تفاصيل أيامه. المنافع الناتجة عن عملية القراءة شتى، منها تقوية الذاكرة و تحسين التركيز و تنمية التفكير الإبداعي و التخيلي و غيرها الكثير من الأمور التي تحسن من حياة القارئ ليس فقط على الصعيد العلمي و المعرفي بل على الصعيد النفسي و الشخصي كذلك. القراءة كما نعرفها اليوم لم تكن هي تلك نفسها المتواجدة في العصور القديمة و قبل آلاف السنين. فعلى سبيل المثال، بدايات الكتابة و أقدم تطور للنصوص في العالم هو ذلك القائم على المخطوطات اللوحية والتي ترجع لآلاف السنين قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين، حين قام السومريون بدور هام في التحول الثقافي للكتابة و القراءة و اعتمدوا على الألواح الطينية لتوثيق المعلومات و تسجيل الأفكار و القصص و الأحداث. شكلت النقوش السومرية معالم القراءة و الكتابة في تلك الأرض و في ذلك الزمن البعيد، حيث عملوا علي خدش الألواح و هي لينة بآلة مدببة و من ثم حرقها لكي تتصلب، لتحفظ ما تم نقشه عليها ليقرأه من يليهم من أجيال. هذه الطريقة الشاقة في التوثيق و الرصد تبين لنا رغبة البشر الشديدة و اهتمامهم القوي بالقيام بكل ما في استطاعتهم في سبيل تسجيل و مشاركة العلم و الثقافة و نقلها لمن يخلفهم، و فيها تذكير لنا بالرفاهية التي ننعم بها في هذا الزمن في مجالات كثيرة من ضمنها مجالات الكتابة و القراءة. نحن اليوم و في راحة منازلنا على بعد ثواني و دقائق فقط من شراء نسخة الكترونية لأحد الكتب، و من تحميل ملخص نشره أحدهم عن فصول كتاب معين، و من الحصول على آلاف المقالات و المنشورات عن المواضيع التي تهمنا و تستهوينا. هذه التسهيلات هي سلاح ذو حدين، جانبها المشرق هو تسهيل عملية الحصول على الكتب و بالتالي تيسير عملية القراءة و تحقيق الغايات المنشودة منها، بينما جانبها المظلم هو الاستغناء شيئاً فشيئاً عن لحظات فريدة من نوعها كان بالإمكان المرور عبرها ما إن سعينا خلف الحصول على الكتاب بشكله الورقي المعتاد. ما بين الألواح الطينية و العصر السومري و غيره من العصور و الثقافات القديمة و بين عصر التكنولوجيا و التحول الرقمي المتسارع تتواجد فترة ذهبية، ألا و هي فترة قراءة الكتب و الروايات و القصص بشكلها الورقي المطبوع. هذه الفترة في تاريخ تقدم القراءة قد لا يتم الحديث عنها بشكل رسمي في الأبحاث الأدبية و قد لا تتواجد في كتب الطلاب و لا يتم تداولها في الفصول الدراسية، لكنها فترة أعطت و ما زالت تقدم إلى القراءة و القراء حقهم الجزيل. فترة قراءة القصص و الروايات بشكلها الورقي صامدة و لم تنته، لكنها كانت أشبه بالخيار الوحيد في أحد الأزمنة، بينما في الوقت الحالي هي أحد الخيارات العديدة التي تصل القارئ بما يود أن يقرأ من مختلف المؤلفات و الروايات. طقوس عدة ارتبطت بتلك الفترة، حيث تميزت بدقائق طويلة يبحث فيها المرء عن مكتبة و دار لبيع الكتب ليتوجه إليها، عن دقائق و ربما ساعات يقضيها في أزقتها باحثاً عن مؤلفات في مجاله المحبب، عن إصدارات كاتبه المفضل، عن الكتب الأفضل و الأعلى مبيعاً، عن المطبوعات النادرة، أو عن كتب متعلقة بمجال لم يسبق له الإبحار في عالمه قراءة و تدقيقاً. رحلة البحث عن كتاب تجربة ممتعة للغاية، ليس فقط لحقيقة العثور و الحصول على الكتاب المنشود، بل لسيل اللحظات المستقبلية الهانئة التي سيقضيها القارئ برفقة كتابه. كما قال المتنبي: “خير جليس في الزمان كتاب”، هذا الكتاب قد يصبح رفيقاً لقهوة الصباح، و قد يغدو صديقاً لمساء هادئ في أدفئ ركن في المنزل، و قد يكون حافظاً للأسرار ما إن شاركناه أوقاتنا حين الفرح و اليسر و أيضاً حين القلق و الحزن، و قد يكون ملازماً في الحل و الترحال و عابراً للقارات إن اخترناه أنيساً في السفر. بالإضافة إلى ذلك، للكثير من القراء مكتبات و رفوف خاصة و ذات قيمة معنوية عالية لصف الكتب و فرزها بكل عناية و بترتيب معين، و تراهم يسترجعون ذكريات كل كتاب انتهوا من قرائته بابتسامة دافئة، مرحبين بتزويد من يستفسرهم عن مقتنيات مكتبتهم الخاصة بخلاصة ما تعلموه و شعروا به عند قراءة تلك المطبوعات، و هذه تجربة لا تقدر بثمن و لا يدرك قيمتها إلا من عاشها. هذا الكتاب الورقي غني بالإشارات الحسية التي تستهوينا كبشر، هو الذي سيطرب الأذهان و العقول بصوت تقليب صفحاته، و هي التي بدورها و رغم تساوي ملمسها الا أنها تحمل الجزيل و الوفير من المعلومات و القصص و الحكايات، و هي التي نطوي بكل لطف أطرافها لنعاود القراءة من تلك النقطة في المرة التالية. أخيرا و ليس آخراً، لعل أهم ما تمتاز به الروايات و القصص و الكتب الورقية هي رائحة أوراقها، تلك الرائحة الزكية ذات الجاذبية التي يعلمها القراء بشكل جيد و تدركها عقولهم بشكل أفضل، تلك الرائحة ناتجة عن التحلل الكيميائي الحاصل للبوليميرات المعقدة من الكحول العطرية المتواجدة داخل الورق، من أهم هذه المركبات السليلوز و اللجنين الآتيان من أخشاب الأشجار. تحلل هذه المركبات ينتج عنه انبعاث الفورفورال الذي يكسب هذه الأوراق رائحة حسنة تعلق في أذهان القراء و الذين قد يصفونها برائحة أشبه برائحة اللوز أو الخشب أو الفانيلا أو غيرها من الروائح الآسرة التي قد تتركز أكثر في أوراق و صفحات الكتب القديمة أكثر من تلك الجديدة و المطبوعة حديثاً. علاوة على ذلك، يعتقد بأن رائحة الورق تعزز مناطق الذاكرة و التركيز في الدماغ مما يجعل قراءة الكتب الورقية أكثر فائدة و متعة من القراءة الالكترونية. إذاً، القراءة من الكتب الورقية تجربة مهيأة و مزودة بالعديد من المزايا التي تسمح للقارئ بالانغماس في عالم القراءة و عالم الإلهام. في عصرنا الحالي، لا زالت المكتبات تزخر بالكتب بصورتها المطبوعة و لا يزال عشاق القراءة بشكلها الورقي متواجدون و مخلصون، لكن البعض اتجه نحو القراءة الالكترونية، و لا مانع من ذلك بلا شك و لا خلاف بأن الكتاب الالكتروني و محتواه متطابق مع ذلك المطبوع لكنه الفارق في التجربة، فالبعض يحبذ الحصول على ما ينوي قراءته بصورته الورقية لأسباب عدة منها ما تطرقت إليه مسبقاً، بينما البعض الآخر يحبذ قرائتها بصورتها الالكترونية. الغاية في النهاية هي جني الفائدة و كسب المعلومة و حسن استثمار الوقت، لكن بنظري أن الأغلبية ستتفق بأن للكتب الورقية سحر خاص بها و أن الذكريات المصاحبة لها عزيزة جداً و لها مكانة فارقة في ذاكرة القارئ.