تجاور المركز والهامش في الثقافة السعودية.

خضعت فكرة المركزية الثقافية، أو الحضارية، إلى عملية نقدٍ متواصل من قِبَل عددٍ كبيرٍ من المفكرين الغربيين والعرب، بوصفها رؤية تختزل الآخر في صورة التابع أو الخاضع أو المهمش، وتنظر إلى حركة التاريخ على أنّها حركة العقل المتفوّق، وأنّ أغلب السرديّات الثقافية تؤكد فوقية مجتمعات ودونيّة أخرى، معتمدةً على التطور العلمي والعقلي الفلسفي الغربي الذي جاء به عقل التنوير الأوربي، وتهميش أي معطيات روحية أو شعبية أو تاريخية خارج ذلك العقل في الثقافات المختلفة التي لا تتقاطع مع الثقافة الغربية كثيراً، وهذا ما جعل فيلسوف التفكيك دريدا يقدّم نقده العنيف تجاه تلك المركزية العقلية، وإن كان يجنح في تفكيكه إلى فتح دلالات المعاني اللغوية وطرح فكرة الاختلاف، إلا أنه يمكن تعميم أفكاره على الخطابات العقلية الغربية وجوانب الحياة المختلفة غير اللغوية، وربما سبقه رولان بارت في كتابه: (أساطير) الذي اعتبر أن المركز يخلق خطابه الإيديولوجي من خلال جعل القيم السائدة تبدو طبيعية، بينما يتم تهميش الأصوات التي تخالفها، مؤكداً على أن الهيمنة لا تمارس بالقوة بل أيضاً عبر خطاب المركز الذي يبدو الحقيقة الوحيدة. من جهة مقابلة يطرح د. عبد الله إبراهيم رؤية نقدية للمركزية الإسلامية التي تُقسّم العالم إلى ذات إسلامية وأخرى غير إسلامية، أو كما طرحها دار الإسلام ودار الكفر، بحيث ذهبت الكتابات العربية، حتى في العصر الحديث، إلى التفريق بين الدارين معطية الأفضلية لدار الإسلام والتقليل من المجتمعات التي لا توافق المجتمع الإسلامي تصوراته العامة للحياة في حين أن واقع الحال لا يسير وفق هذه الرؤية المركزية لدى الكتابات الإسلامية. ولعل الفكر العربي الحديث ذهب في بعض كتاباته إلى التفريق أكثر بين المجتمعات الإسلامية نفسها، فقسّمها إلى مركز وأطراف، معتمدين على التصوّر الخلدوني في ثنايته الشهيرة: مفهوم الحضارة ومفهوم البداوة، لذلك جنحت بعض الكتابات العربية إلى جعل الدول العربية مركزاً، وهي تلك التي سبقت في تطورها المدني، وأخرى أطراف وهي التي سارت أبطأ قليلاً في عملية التحديث، مع نزعة لا تخفى أحياناً إلى الاستنقاص من ثقافات الأطراف على أنّها ثقافات بدوية وغير حضارية، وأن ّمجتمع الجزيرة مجرد رعاة إبل في صحاريهم، دون النظر إلى المكوّنات التاريخية التي تجمع بين دول المركز ودول الأطراف وأصول بعضها المتقارب ثقافياً، مع بعض الاختلاف غير الجوهري. وربما أخذ الأمر بُعداً أيديولوجياً لدى تلك الكتابات لما يجب أن تتمركز عليه الثقافة العربية من تقدم حضاري، مع تهميش بقية المكونات التي يتصورونها خارج منظومة الحضارة المحددة وفق أطر تقدميّة، لتظهر الثنائية حادةً جداً بين الثقافات المركزية والثقافات المهمشة. غير أن المسألة تتسع أكثر إلى التفريق لدى بعض الثقافات الحضرية العربية -إذا صح الوصف- لجعل بعض الأنماط الثقافية والمجتمعية ومنها الأدبية ذات مركزية عالية، وانماط أخرى داخلة في إطار المهمش أو المهمل او المنبوذ، لتنقسم الثقافة العربية إلى مجالين حادين في رؤيتهما لبعضهما: الثقافة العالمة او النخبوية والثقافة الشعبية او العامية، في حين أن تشكل هاتين الثقافتين في الأصل جاء ضمن الهويات المتعددة في الثقافة العربية والإسلامية مما يعني أن هذه الثنائية الحادة إنما هي ثنائية موهومة إلى حد كبير، وربما فرضتها بعض الظروف التاريخية والحضارية لبعض البلدان أو فرضتها بعض التيارات الإيديولوجية ذات النزعات التقدمية. لكن هذه الثنائية قد تكون غير حاضرة في بعض الدول العربية الأخرى، إذ تبدو الأمور بعد اتجاه البوصلة الثقافية إلى دول الخليج -والسعودية منها بالتحديد- أنّ فكرة المركز والأطراف أو الهامش تتهاوى كثيراً، وفي ظنّي أن سبب هذا التهاوي عائد إلى أن الفكرة بُنيت على توهّم التفوّق الحضاري لذات عربية على ذات عربية أخرى، دون النظر للأصول الثقافية المشتركة بين الذوات العربية. وبالعودة إلى الوراء من أجل محاولة التعمق في المسألة فإنّ المعطى التاريخي على هذه الأرض يؤكد ذلك العمق الثقافي الضارب في القدم، إضافة إلى تنوّع مجتمعي وثقافي لا يخفى على دارس للثقافة العربية. هذا غير أن الثقافة السعودية لم تتنكّر لأصول ثقافتها الحضرية والبدوية على حد سواء، فكما أن كثير من مجتمع السعودية رعاة إبل، فهم كذلك أهل زراعة وأهل حضارة تمتد بعيداً في مكوناتها التاريخية. ولعل من أهم ما اعتمدت عليه الثقافة السعودية قدرتها على المزج بين المكونات الحضارية والساحلية والريفية والبدوية دون الانزلاق إلى الثنائية الحادة بين فكرة المركز وفكرة الهامش، فما هو هامش صعد ليكون مركزاً له الكبير من الاعتبار في التصورات العامة لدى كافة أطياف المجتمع، فضلاً عن أن المجتمع بكل ثقافته قدّم نفسه بوصفه مزيجاً من كل ذلك، فرأينا مهرجانات تتسم بكل مقومات الحضارة، إلى جانب مهرجانات الإبل والمأكولات الشعبية والأزياء التقليدية القديمة. هذا غير تجاور الفنون الحديثة والتقليدية، فضلاً عن وجود الحضارات القديمة وحضورها إلى جانب التطور العمراني السعودي، والاهتمام ببيئة الصحراء على اعتبار أنها مكون جغرافي لا يقل عن أي مكون جغرافي آخر. إضافة إلى كل ذلك عادت السعودية لتهتم بكل ما هو موروث ثقافي، من بيوت طينية وأعمال يدوية وفنون القط والسدو وغيرها، تمثيلاً عن الموروث القريب الذي عاشه الأجداد دون النظر إليه برؤية تهميشيّة، لأنه مكوّن عميق من مكونات الثقافة الحاضرة. هذا غير الاهتمام بإعادة ترميم المساجد التاريخية، أو إعادة تأهيل الأحياء القديمة التي تدل على هوية المدن وامتدادها في أعماق الوجدان الشعبي السعودي. وفي ظني أنّ كل تلك المقومات من أهم الأمور التي تتكئ عليها الثقافة السعودية، فلم يُنظر لذلك المهمش على أنه هامشي؛ بل تم النظر إليه على أنه أصل ثقافي يمكن البناء عليه حضارياً وثقافياً، فإذا كانت السعودية خطت خطوات واسعة في مجال التنمية، حتى صارت المدن حضارية بامتياز، فإنها كذلك لم تغيّب الجانب الثقافي التقليدي، وإنما العكس من ذلك تماماً، حيث أعادت الاعتبار إليه، وربما التفاخر به، وهذه دلالة على رؤية عميقة في أهمية تجاور ثقافة المركز وثقافة الهامش في التصورات العامة، ولعل الرأي المعتبر يذهب باتجاه أنّ أي رؤية تعمل على حدّية الثنائية المطروحة، وعدم المزج بينها، إنّما هي رؤية هشّة تعتمد على الجانب الحضاري المادي دون الموروث الثقافي الأصيل. صحيح أنّ بناء التنمية يتمّ وفق المقومات العصرية في كثير منها، لكن لا قيمة لها ثقافياً من غير حضور الموروث الذي كان -ولمدة قرون- المقوّم الأهم لإنسان الجزيرة العربية، فمهما تم النظر إلى الموروث على أنه هامش، فإنه في نظرنا مركز ثقافي أصيل لا يمكن الاستغناء عنه، ومن هنا تكون ثنائية المركز والهامش ثنائية متجاورة وليست متضادة. * أديب وأكاديمي سعودي