التسعينيّ الذي صبّ المياه في أوردتي.

تسير فارعًا كأنك صرحًا منصوبًا بإرادة الأقدار، بينما يهتز في جوفك يقين ويتبعثر في عيونك ما كُنت تظنه جميلا! بهذه الروح عزمت على زيارة الأستاذ محمد العلي، أحد رموز الحداثة السعودية لعل الينابيع تلمع مجددًا في عيوني فتضخ المياه في أوردتي. حدث ذلك برفقة ثلاث شاعرات هن: تهاني آل صبيح، حوراء الهميلي وزهراء آل شوكان، استقبلنا ابنه “علي” بوجود المؤرخ الكبير محمد القشعمي في بيت الوالد بمدينة الدمام عصر الأحد 14 أبريل 2024. عايدناه بزهور العيد وأشعار من كل بحر غرفته كل واحدة منا بإيقاعها الخاص، وأهدانا آخر كتبه“هل هذا أنا ؟ محمد العلي فتى اللغة والثقافة “ فخرجنا ولم تبرحنا الدهشة! غير أنه صبّ المياه في أوردتي دون علمه، فقد سافرتُ بذاكرتي إلى الوراء قليلًا استحضرُ أثره بي كقارئة من جيل أبنائه الصغار أو أحفاده.. لأدوّن أبرز الوقفات: عندما قرأت “كلمات مائية “ في بداية دخولي عالم القراءة والكتابة، استوقفتني حالة التساؤل التي يتركها للقارئ، فمعظم مقالاته تحمل روح السؤال ضمنيًا أو مباشرة، وتفتح الذهن على ماهو أبعد، ينتهي الكاتب وفضول القارئ في عز انتشائه، هذه هي طبيعته المقالية تقول ولا تقول، يقارعك بالأفكار الصعبة والقضايا الكبرى ومآزق الإنسان في الوجود بلغة شعرية، تلمس صلابته ومرة أخرى تشعر برهافته وحيرته ليؤثر بك. قرأت الكتاب مرارًا وكأني أريد أجزاء تكميلية، ولكني ادركت مع الزمن أن العلي لم ينفك عن مقاله الأول؛ الإيجاز والكثافة، الفلسفة السؤالية وإدراك العمق. من الذات الجمعية إلى الفردية لازال التحرر من العقل الجمعي حساسًا ومُعقدًا، لأن ذلك يعني السير خارج التيار وربما عكسه وهذا له أثمان باهضة! ولمجرد التخيل كيف هو شكل الحياة في الستينيات الميلادية، نستشعر حالة التصلب والتزمت والصرامة، فبرغم أننا الآن نعيش أزهى عصور الانفتاح الثقافي والرقمي، فالشباب ذكورًا وإناثًا يعبرون عن آرائهم المغايرة لآبائهم، ويسافرون ليتحرروا ثم يعودون لحضن الجماعة كأن شيئًا لم يكن! كل المراحل العمرية تحمل في أيديها العالم عبر جهاز اتصال لاسلكي تغادر متى شاءت ولا بد أن تطفئه وتعود لحضن الجماعة وكأنها لم تغادر! إذًا عملية التحرر من الجماعة لازلت صعبة! فكيف مرت تلك التجربة؟! المُلقب بالشيخ الهجري الذي بعثه والده الغني بأملاك نخيل الأحساء والعراق إلى النجف الأشرف لدراسة العلوم الدينية ولما بلغ الفتى في دراسته مرحلة السطوح غيّر مساره كليًا نحو دراسة الأدب واللغة والاشتغال بالشعر! ليس سهلًا ذلك الخروج السافر عن السائد المبجل آنذاك، انقطع مصروفه المالي من والده على مدى خمسة عشر عامًا.. هذا ما ذكره الأستاذ جعفر عمران في شهادة ضمنها كتاب “تلك الزرقة التي علمتنا الأناشيد “ 2015. وما لم يُذكر بلا شك أشد وأقسى، إنما كما قال المسيح عليه السلام “ لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإنسان لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ “. هذه المقدمة أثرت بي كثيرًا وصنعت رغبة مُلحة لفهم ما يكتبه شعرًا وفكرًا، ناهيك عن أمنية اللقاء به ومحاورته مباشرة، وهو القريب البعيد حيث نسكن المدينة ذاتها (الدمام) وأصولنا تلتقي في الأرض الأم (الأحساء) ناهيك عن اتصال في النسب عبر المصاهرة. ندوتا الشرقية عندما دخل قاعة منتدى الثلاثاء الثقافي 2014 لتقديم ندوة “عوائق المعرفة “ كان لافتًا بحضوره الطاغي صمتًا وحديثًا، لا يُشاع عن كل الشعراء الحكمة غير أنه شاعرًا صمته يتحدث، وانتظاره يفعل، ويتناغم فيه كلًا من لغة الجسد ولغة الكلام ولغة الفعل؛ فكلها من قبيل العزة والوعي والعنفوان، حتى بدأ الكلام ليقدم ستة عوائق للمعرفة وهي: اليقين، الايدولوجيا، الذهنية القطعية، الثقافة السائدة، العلاقة بين الاقتصاد والعدالة الاجتماعية، والفهم اللا تاريخي. كيف تُنصت لمحمد العلي بصوته الجهوري ومعناه المتنور دون أن تُصاب بالتعلق بالفضول والتوّق للتزود منه. كنت طوال ذلك المساء مُنصتةً على غِرار الخطوات الأولى في التعرف عليه عن كثب، غير أنني في مساء آخر هادئ حضره النخبة من مثقفي المنطقة الشرقية بجمعية الثقافة والفنون عام 2019 وأثناء تقديمه لندوة “الاغتراب“ استجمعت قواي بعد أن عرفت أنه لا يجامل أبدًا، وسألته عن حالة الانتكاسة التي تصيب بعض المثقفين في أرذل العمر، فرد بعناية فائقة: نعم.. إنها “ردة المثقف“، تملكتني السعادة والثقة بأن ما يستوقفني من قبيل المهم والمفيد والذي يستحق الملاحظة والدراسة. ثم في زيارتي له في بيته في ابريل 2024 سألته مجددًا عن “ردة المثقف“ التي طرحها في مقالٍ سابق له، فجاءت إجابته تفصيلية عن أسباب انتكاس بعض المثقفين وهي: الاعتقاد بأن طريق الثقافة يمنح المال والوجاهة والمنصب دون أثمانٍ باهضة. وعدم الإيمان بطريق الثقافة إيمانًا حقيقيًا مما يؤدي للتحول أو العدول أو الخروج النهائي عند مواجهة الصعاب. مُصرحًا بأن هناك فصيل من المثقفين لا يعول عليهم. وفي الختام، خرجت من زيارته ولحظة نافرة من روحي تقرع طبولها فوق رأسي: هل أبلغ فرادته ببلوغي التسعين؟ ويأتيني الشباب، الأطفال حاليًا لأصب في أوردتهم مياه الحياة كما فعل بي؟ نافذ بشفافيته، صادق بكلمته، وكل كلماته معول عليها، أصيل بتحريرالإنسان، وقد رأيته مُترفقًا على أرواحنا الصغيرة في تلك الزيارة، جاء ثناؤه كهدية قائلًا: “كل ما سمعته منكن اليوم هو شعر حقيقي“ ونقده لبقٌ عندما كاشف الشاعرة تهاني ال صبيح قائلًا: البقاء في الشعر العمودي بقاء في التراث، والذي لايخرج منه يصعب عليه الخروج من التراث “ . إنسان شجاع في التدفق الفكري، أكاد أشفق على أكوام الشباب في حضرته، أولئك الذين جبسوا رؤوسهم بجبائر لا حل لها غير الكسر من الأعلى، ليرفع لنا تساؤلاً جديدًا حول الإنسان: ما الذي يُبقي إنسانًا في التسعين من عمره مُتحلقًا في الربيع الفكري بينما يتصرم عمر كثير من الشباب في القساوة والجفاف حد التصحر الفكري، كأن الخريف تكدس على الخريف في وجوههم! أما هو فأي روحٍ تسكنه ليبقى السؤال ينفجر من كل زاوية فيه. وقُبيل الخروج، مددتُ له كتاب “ كلمات مائية “ وقد جئت به ناجيًا من مكتبتي التي احترقت في 2019 غير أن النار لاتقوى على حرق الماء، لأظفر بتوقيعه مؤرخًا لهذا اللقاء. همهم ويداه ترتعشان: “ ماذا أكتب لكِ يارجاء؟ “ يقول له ابنه علي: “أكتب لها فلقد رتبت هذه الزيارة لأجلك“ فيكتب: “إلى رجاء، أهديكِ كلماتي المائية لشعركِ المائي”. يُعيدني لسؤال نفسي: “لشعري المائي؟“ هكذا ضمنيًا يرمي بصنارته في المياه، مُحفزًا إياي لمواصلة الإبحار وتحمل العواصف الهائجة، ثم الاغتسال المُستكين في مياه النهر تحت شمس الشموس المتعالية والعروج بنقاء الروح الناجية. أسرُ لنفسي بقول المسيح عليه السلام: “لن يلج ملكوت السماوات والأرض من لم يولد مرتين“.