عندما سألني: كيف يكون السؤال خطيئة؟

محمد العلي يرى أن مجتمعاتنا العربية متخمة بالأجوبة الجاهزة، وإن أجوبتها أكثر من اسئلتها، وبالتالي لا يمكن أن تنجح فيها الفلسفة أو أي مشروع حداثي، لأن الفلسفة والحداثة، مشروعان قائمان على الأسئلة اللامنتهيه، فالسؤال هو الأصل، والجواب غالبا ما يكون حالة طارئة، ولهذا يسكنه السؤال في كل ما يكتب، وأكثر ما يقلقه أن تهزم الأسئلة أمام هذه التخمة والسيل الجارف من الأجوبة التي أتخمت بها المجتمعات العربية، لأن تخمة الأجوبة واليقينيات، تفقد الإنسان الدهشة، وبالتالي تفقد الإنسان حالة التفكير السليم، وبالتالي كل ما يكتبه العلي قائم على كسر الحجر المتكلس في بنية الثقافة العربية، منذ أول مقال كتبه إلى آخر مقال الآن وهو في عمره الذي تجاوز العقد التاسع. ولأنَّ من فلسفة السُّؤال الشَّكَّ، وهنا يتولَّد سؤال هل الشَّكُّ لمجرَّد الشَّكِّ؟ أي هل علينا أن نفتح سؤال الشَّكِّ على مصراعيه؟ كما يذهب بعضنا منعًا للتَّضييق على السُّؤال، هنا نجد الأستاذ محمَّد العلي يضع معنيين للشَّكِّ، شكٌّ مطلق، وشكٌّ ممنهج. يقول: “الشَّكُّ المطلق شلل في الفكر وفي الإرادة، أمَّا الشَّكُّ المنهجيُّ فهو الَّذي لا غنى عنه في كلِّ مجال من مجالات المعرفة الإنسانيَّة”، وبعد هذا التَّفريق للأستاذ العلي بين أنواع الشَّكِّ نجده في فقرة أخرى من مقاله يؤرِّخ لبداية الشَّكِّ المنهجيِّ في القرن الخامس قبل الميلاديِّ حيث يقول: “بدأ الشَّكُّ المنهجيُّ عند الفلاسفة السَّفسطائيِّين أي منذ القرن الخامس قبل الميلاد، واستخدمه بعض المفكِّرين الإسلاميِّين في عصور ازدهار الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة إلى أن جاء ديكارت فأشرع أمامه كلَّ الأبواب”. وهنا قد يقفز القارئ قائلًا هذا ما ينقص السُّؤال لدينا، ولكن هل المجتمع العربيُّ مهيَّأ لمثل هذا السُّؤال؟ أو بمعنى آخر هل هو قادر على أن يهيِّئ المناخ المناسب له؟ هناك شبه حقيقة تقول إنَّ المجتمعات الَّتي تعيش ركودًا معرفيًّا لقرون يقلقها السُّؤال الحقيقيُّ الَّذي يفتح آفاق العلم، وإن وجد السُّؤال فيها، فهو سؤال قاموسيٌّ مكرَّر، ومفرَّغ من معناه الحقيقيِّ، وطبيعيٌّ أن تكون إجابة مثل هذا السُّؤال قاموسيَّة هي الأخرى، وتضع الأقفال أمام “مفتاح العلم” أي السؤال. العلي لا يكتفي بطرح السؤال لمجرد السؤال، أي بمعنى آخر يدعونا للشك لمجرد الشك، فهذا أقرب إلى المراهقة الفكرية والعبث وإنما يدعونا إلى السؤال المبني على منهج ومنطق سليم، وهذه هي فلسفة العلي حينما يكتب وحتى حينما تحاوره في لقائك به.. السؤال هو العامل المشترك في كل من يلتقي به أو يحاوره. لهذا أتذكر حينما زرته لأهديه كتابي الأول “خطيئة السؤال” الذي صادر في نفس الشهر، أخذ الكتاب وقرأ العنوان بتأني وكأنه يتهجى الأحرف، خطيئة السؤال، ثم نظر لي مستغربا: كيف يكون السؤال خطيئة؟ أجبته: نعم هو خطيئة لأنه يفتح باب الشك في كل شيء فهو حالة الشك الكبرى، فهل مقبول في مجتمعنا أن نشك في كل شيء؟ فالسؤال هو المدخل الدائم والمناسب لأي زائر له فهو بطبيعته كائن يلوذ بالصمت كثيرا، قليل الكلام، وغالبا لا يتحدث إلا حينما تستفزه بالأسئلة وحديثه دائما ما يكون مختصرا، فالكلمات تخرج منه محسوبة بلا زيادة أو نقصان أو يجيبك على قدر سؤالك، أو يمتنع عن الإجابة في بعض الأحيان ويلوذ بالصمت المطبق إلى أن يقتحم هذا الصمت سؤالا، والسؤال غالبا ما يدع الفرصة لضيفه أن يطرحه ومن ثم يناقشه به، لأن العلي مستمع جيد، ويمنح ضيفه كل الوقت في أن يطرح أسئلته وإشكالياته، ومن هنا نستطيع أن نقول أن العلي صاحب منهج لسؤال يطرحه في ما يكتب، وفي حياته العامة حينما تلتقي به و تتحاور معه.