الإيجاز وطرح الأسئلة وأشياء أخرى.

كيف يكتب محمد العلي؟ هذا السؤال يجعلنا في مواجهة حقيقية للوقوف على مفهوم “الكتابة” لدى محمد العلي، ولو حاولنا في هذه العجالة أن نشير إلى بعض سمات الكتابة، فلعلنا نكون أكثر قربًا من عوالمه الكتابيّة. فأول سمةٍ في كتابته، هي اشتباكه بالأسئلة، فهو يناقش الفكرة -في أي مقال أو محاضرة- من خلال منظومة من الأسئلة، يشعر القارئ أو المستمع بأنه أمام تجربة فكريّة غير مهادنة، أو متواطئة مع واقعها. وثانيها راهنيّة الفكرة، وحتى لو كانت فكرة تراثية أو قديمة قد تناولها القدماء إلا أنه يعيد النظر فيها من منظور الواقع، فيتناول أفكارًا تعدُّ من القضايا الكبرى في الفكر الإنساني كالحرية والعدالة والجمال والفن والإرادة، ولكنه ينظرُ فيها من غربالٍ نقديٍّ معاصر. وهذا خاضع لمنهجه العام في الكتابة، وهو تحقيق الأثر الإيجابي في حياة الناس؛ أي تغيير الواقع الاجتماعي؛ ولهذا نلاحظ أنه دائم التساؤل عن الأثر الذي سوف تتركه الكتابة في واقع الفرد والمجتمع. وهذا المنظور نحو الكتابة هو ما يضعنا أمام مفكر متسائل، يرى أن الكتابة هي القدرة على تغيير الواقع، وليس مجرد فهمه. فالأسئلة في تصوره هي الضرورة التي أنجبت الفن والفكر معًا، يقول في إحدى مقالاته: “لقد انفصل الإنسانُ عن الطبيعةِ في اللحظةِ التي وجّه فيها أوّلَ الأسئلةِ، ليس مهمًا أن نعرفَ ما هو السؤالُ الأوّل؛ كيفَ وُجّه، ولِمَنْ؟ المهم أن نعرفَ أنه اندلعَ مثلَ اندلاعِ اللهبِ، وأنه نادَى أسئلةً أخرى، ولا يزال، من هنا تجذّر الرّعبُ داخلَ الإنسان، لقد واجهَ الطبيعةَ بكلِّ شراستِها، وهو أعزلُ، وواجهَ الأسئلةَ بدون إجابةٍ ما، وراحَ ذلك الرّعب يفجّرهُ تفجيرًا متعددًا، ليس الفنُ سوى شكلٍ من أشكالهِ الكثيرةِ”. (صحيفة الرياض، زاوية البحر الموحش). وهي المفتاح لجميع الأبواب، كما يقول في مقالة أخرى: “فالسؤال وحده هو المفتاحُ لجميع الأبوابِ.. سواء كانت أبواب النفس، أو أبواب المجتمع، أو أبواب الكون”. (صحيفة اليوم، العدد 10582). إذن ما يؤسس له المقال في تجربة الأستاذ محمد العلي، هو إثارة الأسئلة التي تفتح شبابيك التفكير، وأبواب التأمل في الأفكار لدى القارئ بوصفه قارئًا منتجًا للأجوبة. أهو يسأل أم يجيب عن الأسئلة؟ السؤالُ هو أنقى تعبير عن الدهشة تجاه الأشياء والكائنات، فالسؤال لديه لا يرتبط بالجواب دوما، إنه تعبير طبيعي عن الاندهاش بجماليات الكون، وروعة الأشياء. فتساؤلاته تفتح أبوابًا ونوافذَ تجاه الحياة والأحياء، وكأنما السؤال متنفس رَحْب يتواصل من خلاله مع قارئه، من أجل البحث (معًا) عن الجواب المتواري وراء مجاز اللغة، أو خلف ركام التّاريخ؛ كي يلتقيا في منتصف الطريق، وما الأسئلة إلا نقطة انطلاقهما، ونقطة التقائهما في رحلة البحث عن الأجوبة. ويمكن أن يلاحظ قارئ محمد العلي أن تجربة الكتابة لديه يلتحم فيها الشعري والفكري التحامًا وجوديًّا، فحضور الأسئلة في قصائده إحدى تجلياتها المضمونة، فالقصيدة قد تكونُ عتبتها الأولى سؤالًا بحجم (لماذا؟) أو (كيف؟)، وليس التساؤل في الشعر هو بالضرورة بحث عن إجابة آنيّة أو جاهزة، وإنما هو سؤال جوهريٌّ عن المعنى، أو المطلق، أو الوجود، أو الإنسان، إنها أسئلة شعرية، هدفها إيقاظ مخيلة القارئ ووجدانه وأحاسيسه؛ كي يبحث معه عن نبع الأجوبة التي لن يجف تدفقها في وجدان الإنسان وعقله؛ ولذا فهو ينتظرُ (الجواب) حتى لو جاء بعد زمن بعيد، إنه سؤالٌ موجّه للأجيال القادمة، وهذه رؤية مستقبلية، فقد تتعثر إجابة السؤال في الحاضر، ولكن قد يأتي بها المستقبل؛ يقول في إحدى قصائده: “لا أريدُ جوابًا على كلِّ أسئلتي الآنَ! أريدُ الجوابَ عليها إذا مَا انتهى قَرْنُنَا القَادِمُ!” هذا الحضور المكثف للأسئلة في كتابات محمد العلي ومقالاته وقصائده، يعبر عن حضور (القارئ)، بوصفه قارئًا نوعيًّا، وهذا ما يأمله -دوما- محمد العلي في القراء؛ ولذا تجده باستمرار يشاطر القارئ في كل ما يتصل بالفكرة التي يتناولها، فإذا كان السؤال يعبر عن موقف الكاتب ورؤيته، فالإجابات المنتظرة من القارئ، هي تعبير عن موقفه ورؤيته أيضا. هل اختلفت كتاباته طوال العقود الستة من كتابة المقال؟ ثمة سمات أساسية ثابتة في كتابة المقال لدى الأستاذ العلي، مثل الإيجاز، وطرح الأسئلة، والاستطراد، ثم العودة إلى صميم الفكرة في المقال ذاته، أو مناقشتها في حلقات أخرى متممة، وذلك لو تطلب المقال المزيد من التفصيل حول الفكرة، مثل قوله: “وقفت على التشبيه بصورة قصيرة، واستطرادية، سأعود إليه مفصلا في حلقة قادمة”. ومن السمات -أيضا- حضور الحس الساخر، والحس النقدي والفلسفي، ولا يخلو المقال من دفقةٍ شعريّة. قد تختلف بعض المقالات في سماتها، فتمتاز بحسها التراثي من حيث الموضوعات، مثل زاويتيْ (يا ما كان)، و(فيها قولان)، وقد يمتاز بعضها الآخر بالموضوعات المعاصرة، مثل زاويتيْ (بعد آخر)، و(كلمات مائية). هذا بشكل عام، إذن قد تختلف الأساليب والموضوعات في كتابة المقال، أما جوهره وسماته، فهي من جوهر شخصية كاتبها وسماته. ما الدافع لك لقراءة مقال الأستاذ؟ الدافع هو كما قال ابن العميد عن الجاحظ: “إنَّ كتبَ الجاحظِ تُعِلّمُ العقلَ أولًا، والأدَبَ ثَانيًا”، وكذلك هي كتابات محمد العلي.