الشعر وحالاته الثلاث!

الشعر فنٌ لغوي بديع، يُعبّر عن الأحاسيس والمشاعر بأسلوبٍ موزونٍ مقفّى، وهو أحد أقدم أشكال التعبير الأدبي في التاريخ العربي. لم يكن الشعر يومًا مجرد كلامٍ جميل، بل كان مرآةً تعكس هموم المجتمع، وتفاصيل الحياة، ومكنونات النفس البشرية. ورغم تعدد أغراض الشعر بين المديح، والهجاء، والفخر، والحكمة، والغزل، إلا أن الشعر العاطفي ظل أحد أبرز الأغراض الشعرية وأكثرها تأثيرًا. فهو انعكاسٌ لحالة الشاعر النفسية والعاطفية، ويختلف في دافعه باختلاف التجربة التي مر بها الشاعر. في هذا السياق، يمكن تصنيف دوافع الشعر العاطفي إلى ثلاث حالات أساسية، وهي: الحالة الأولى: القصة المختلقة في هذه الحالة، ينسج الشاعر قصيدة قائمة على قصة خيالية لا وجود لها في الواقع، لكنه يستدعيها من خياله ليمارس نوعًا من “التدريب العاطفي”. هذه القصائد أشبه بجلسات “مساج” للمشاعر، تمنحها مرونةً وتُبقيها يقظة، كي تكون جاهزة للتفاعل عند مواجهة الجمال، سواء كان جمال الروح، أو الهيئة، أو الصوت، أو حتى نظرة العين الفاتنة. مثال من الشعر العربي القديم: يُقال إن الشاعر كثير عزة لم يكن يحب محبوبته “عزة” كما صوّرها شعره، بل كانت مجرد رمزٍ لجمال المرأة، وهذا يتضح في قوله: رَحَلتُ بها ما بينَ غَربٍ وَمَشرِقٍ وَمِن دونِها هَيلٌ مِنَ الرَملِ يُكثَبُ الحالة الثانية: القصة الواقعية من طرف واحد هنا، يستلهم الشاعر قصيدته من مشاعر حقيقية تجاه شخص معين، لكن الطرف الآخر يظل غافلًا عن تلك المشاعر، أو غير مستجيبٍ لها. في هذه الحالة، يلجأ الشاعر إلى التلميح بدلًا من التصريح، مستخدمًا عبارات غير مباشرة وكأنه يقول: “إياكِ أعني واسمعي يا جارة!” تحديات هذه الحالة في المجتمعات المحافظة: يواجه الشعراء في المجتمعات المحافظة، خاصةً الخليجية، تحديًا في التعبير عن هذه المشاعر، إذ قد يُساء تفسيرها على أنها نوع من “التعدي العاطفي”، رغم كونها مشاعر إنسانية طبيعية لا يُحاسب عليها الإنسان. لهذا، غالبًا ما تأخذ قصائد هذه الحالة طابعًا من الملام، والعتب، والجفاء، وحتى الوداع، مدفوعةً بعزة النفس والخوف من رفض الطرف الآخر. مثال من الشعر العربي: الشاعر العباس بن الأحنف كان مثالًا لهذا النوع، فقد كان يهيم حبًا بمحبوبته لكنها لم تبادله المشاعر، فقال: وَزُرْتُكَ لا أَخْشى مَلالَةَ زائِرٍ عَلَيْكَ وَلكِنْ خِفْتُ مِنْكَ مَلالِيا الحالة الثالثة: القصة الواقعية المتبادلة أما في هذه الحالة، فالشاعر يعيش تجربة حب حقيقية مع محبوبته، سواء كان ذلك في إطار علاقة زواج أو ارتباطٍ عاطفي صادق. هنا، تكون القصائد أكثر حرارةً وصدقًا، وتعكس مشاعر العشق والهيام والشوق بوضوح، لأن العلاقة متبادلة والمحبوبة ليست غائبةً أو متجاهلةً لمشاعر الشاعر. مثال من الشعر العربي القديم: الشاعر عنترة بن شداد كان مثالًا لهذا النوع، إذ كان حبّه لعبلة صادقًا ومتبادلًا، فقال في أحد أبياته الخالدة: يا دارَ عبلةَ بالجَواءِ تَكَلَّمي وَعِمي صَباحًا دارَ عبلةَ وَاسْلَمي الشعر في سياق الدين: قد يتساءل البعض عن موقف الدين من الشعر، خصوصًا بعد ورود الآية الكريمة: “وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا…” (سورة الشعراء: 224-227) لكن، عند تفسير هذه الآية، نجد أن الذم لم يكن موجهًا إلى كل الشعراء، بل إلى من يستخدمون الشعر في الكذب والتضليل، وليس في التعبير عن العواطف والمشاعر الصادقة. كما أن الشعر في الإسلام لم يكن محظورًا، بل كان هناك شعراء مقربون من النبي - صل الله عليه وسلم - مثل حسان بن ثابت الذي استخدم الشعر في الدفاع عن الإسلام، وقال فيه الرسول: “اللهم أيده بروح القدس” وبذلك، يمكن القول إن الشعر فنٌ مشروعٌ ما دام لا يحمل معاني مضللة أو باطلة. الشعر العاطفي يظل من أكثر ألوان الشعر تأثيرًا وانتشارًا، وهو انعكاسٌ صادقٌ للمشاعر الإنسانية. سواء كان مستوحًى من قصة خيالية، أو تجربة حب من طرفٍ واحد، أو علاقة متبادلة، فإن الشعر يظل لغة القلب التي لا تموت. وكما أن هناك سورة في القرآن الكريم تحمل اسم “الشعراء”، فهذا وحده دليل على أهمية الشعر وقيمته في الثقافة العربية.